الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(39) باب أول مسجد وضع في الأرض، وما جاء أن الأرض كلها مسجد
[413]
- عَن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن أَوَّلِ مَسجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرضِ؟ قَالَ: المَسجِدُ الحَرَامُ، قُلتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: المَسجِدُ الأَقصَى، قُلتُ: كَم بَينَهُمَا؟ قَالَ: أَربَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الأَرضُ لَكَ مَسجِدٌ، فَحَيثُمَا أَدرَكَتكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ.
ــ
(39)
ومن باب: أول مسجد وضع في الأرض
قوله: وقد سأله أبو ذر عن أول مسجد وضع في الأرض: المسجد الحرام؛ وهو مسجد مكة. والمسجد الأقصى: هو مسجد بيت المقدس، وسمي بالأقصى؛ لبعده عن الحجاز، أو لبعده عن الأقذار والخبائث، فإنه مُقَدَّس، والمُقَدَّس: المُطَّهر، ومنه: القَدس: السَّطل الذي يستقى به الماء.
وقوله: أربعون عامًا - وقد سُئل عن مدة ما بينهما - فيه إشكال؛ وذلك أن مسجد مكة بناه إبراهيم بنصّ القرآن؛ إذ قال: {وَإِذ يَرفَعُ إِبرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيتِ وَإِسمَاعِيلُ} الآية. والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام كما خرَّجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة: سأل الله تعالى حكمًا يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا يَنهَزُه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه (1). وبين إبراهيم وسليمان آماد طويلة؛
(1) رواه النسائي (2/ 34). ومعنى "ينهزه": يحرّكه.
رواه أحمد (5/ 105 و 156)، والبخاري (3166)، ومسلم (520)(2)، والنسائي (2/ 32)، وابن ماجه (753).
[414]
- وَعَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ الأَنصَارِي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُعطِيتُ خَمسًا لَم يُعطَهُنَّ أَحَدٌ قَبلِي: كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبعَثُ إِلَى قَومِهِ خَاصَّةً
ــ
قال أهل التاريخ: أكثر من ألف سنة. ويرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على أن بناء إبراهيم وسليمان لما بنيا ابتداء وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه، وقد رُوي أن من بنى البيت آدم عليه السلام. فعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس بعده بأربعين عامًا، والله تعالى أعلم.
وفي الأم (1) قول إبراهيم التَّيمي: كنت أقرأ على أبي القرآن في السُّدَّة، فإذا قرأت السجدة سجد، فقلت: يا أبت! أتسجد في الطريق؟
…
، الحديث) كذا صحَّ: السُّدَّة. ورواه النسائي: في السِّكَّة، وفي بعض السِّكَك، وهذا هو المطابق لقوله: أتسجد على الطريق؟ لكن السُّدَّة هنا إنما عنى بها سُدَّة الجامع، وهي الظلال التي حوله، ومنه سُمِّي إسماعيل السُّدِّي؛ لأن كان يبيع الخُمُر (2) في سُدَّة الجامع، وكان التيمي يجلس فيها ويقرأ القرآن، فإذا جاءت السجدة سجد (3).
وقوله في حديث جابر: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، وفي حديث أبي هريرة: ستًّا، وفي حديث حذيفة: ثلاثًا، لا يظن القاصد أن هذا تعارض، وإنما يظن هذا مَن توهَّم أن ذكر الأعداد يدل على الحصر، وأنها لها
(1) أي: في أصل صحيح مسلم (1/ 370).
(2)
الخُمُر: جمع خمار.
(3)
ما بين حاصرتين ورد في الأصول في نهاية: باب: الصلاة في الثوب الواحد، وقد تمَّ وَضعُه هنا لمناسبته.
وَبُعِثتُ إِلَى كُلِّ أَحمَرَ وَأَسوَدَ، وَأُحِلَّت لِيَ الغَنَائِمُ وَلَم تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبلِي، وَجُعِلَت لِيَ الأَرضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدرَكَتهُ الصَّلاةُ صَلَّى حَيثُ كَانَ، وَنُصِرتُ بِالرُّعبِ بَينَ يَدَي مَسِيرَةِ شَهرٍ، وَأُعطِيتُ الشَّفَاعَةَ.
رواه أحمد (3/ 304)، والبخاري (335)، ومسلم (521)، والنسائي (1/ 210 - 211).
ــ
دليل خطاب، وكل ذلك باطل؛ فإن القائل: عندي خمسة دنانير - مثلا - لا يدل هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول تارة أخرى: عندي عشرون، وتارة أخرى: عندي ثلاثون؛ فإن من عنده ثلاثون صدق عليه أن عنده عشرين، وعشرة، فلا تناقض، ولا تعارض. ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أُعلِمَ في وقت بالثلاث، وفي وقت بالخمس، وفي وقت بالست، والله تعالى أعلم.
وقوله: وبعثت إلى الأحمر والأسود؛ يعني: كافة الخلق؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} والحُمرَانُ: عَنَى بهم البيض، وهم العجم، والسودان: العرب؛ لغلبة الأَدَمَةِ عليهم، وغيرُهم لسوادهم.
وقوله: وجعلت لي الأرض طيبة طهورًا؛ يعني: في التيمم، كما قد بيّنه في الحديث الآخر، وهو حجة لمالك في التيمم بجميع أنواع الأرض؛ فإن اسم الأرض يشملها. وكما أباح الصلاة على جميع أجزاء الأرض، كذلك يجوز التيمم على جميع أجزائها؛ لأن الأرض في هذا الحديث بالنسبة إلى الصلاة والتيمم واحدة. فكما تجوز الصلاة على جميع أجزائها، كذلك يجوز التيمم على جميع أجزائها. ولا يظن أن قوله في حديث حذيفة: وجعلت تربتها لنا طهورًا؛ أن ذلك مخصَّصٌ له، فإن ذلك ذهول من قائله؛ فإن التخصيص إخراج ما تناوله العموم على الحكم، ولم يخرج هذا الخبر شيئًا، وإنما عيّن هذا الحديث واحدًا مما تناوله الاسم الأول، مع موافقته في الحكم، وصار بمثابة قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخلٌ
[415]
- وَعَن حُذَيفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فُضِّلنَا عَلَى النَّاسِ
ــ
وَرُمَّانٌ} وقوله: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبرِيلَ وَمِيكَالَ} فعيّن بعض ما تناوله اللفظ الأول، مع الموافقة في المعنى على جهة التشريف. وكذلك ذكر التراب في حديث حذيفة، وإنما عيّنه لكونه أمكن وأغلب. فإن قيل: بل عيّنه ليبيّن أنه لا يجوز التيمم بغيره، قلنا: لا نسلِّم ذلك، بل هو أول المسألة، ولئن سلمنا أنه يحتمل ذلك، فيحتمل أيضًا ما ذكرناه، وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر، فليلحق اللفظ بالمجملات، فلا يكون لكم فيه حجة، ويبقى مالك متمسكًا باسم الصعيد، واسم الأرض. وأيضًا فإنا نقول بموجبه؛ فإن تراب كل شيء بحسبه، فيقال: تراب الزرنيخ، وتراب السِّبَاخ.
وقوله: طهورًا؛ هذه البنية من أبنية المبالغة؛ كقتول وضروب، وكذلك قال في الماء. فقد سوَّى بين الأرض والماء في ذلك، ويلزم منه أن التيمم يرفع الحدث، وهو أحد القولين عن مالك، وليس بالمشهور.
وطيبة: طاهرة. وكذلك قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ؛ أي: طاهرًا. وعلى هذا فلا يفهم من قوله: طهورًا عين التطهير لغيرها؛ إذ قد وصفها الله بالطهارة في نفسها، ثم جعلها مُطَهِّرة لغيرها، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام. وقد قيل له: أنتوضأ بماء البحر؟ فقال -: هو الطهور ماؤه (1)؛ أي: الذي يطهركم من الحدث.
وقوله: ومسجدًا؛ أي: للصلاة. وهذا مما خص الله به نبيه عليه الصلاة والسلام، وكانت الأنبياء قبله إنما أبيح لهم الصلاة في مواضع مخصوصة كالبِيَع والكنائس.
(1) رواه أحمد (2/ 237)، وأبو داود (81)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 176)، وابن ماجه (386) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بِثَلاثٍ: جُعِلَت صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلائِكَةِ، وَجُعِلَت لَنَا الأَرضُ كُلُّهَا مَسجِدًا، وَجُعِلَت تُربَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَم نَجِدِ المَاءَ. وَذَكَرَ خَصلَةً أُخرَى.
رواه مسلم (522).
ــ
وقوله: وأحلت لي الغنائم: هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت الغنائم قبله تجمع ثم تأتي نار من السماء فتأكلها. والرعب: الفزع. والشفاعة: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: هي الشفاعة لأهل الموقف؛ كما تقدم.
وقوله: وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا؛ هذا العموم وإن كان مؤكدًا، فهو مخصص بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل؛ كما جاء في الصحيح، وبما جاء في كتاب الترمذي من حديث ابن عمر -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والمقبرة، وفي الحمّام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى (1). وقد كره مالك الصلاة في هذه المواضع، وأباحها فيها غيره، ولم يصح هذا الحديث عنده. واعتضد قائل الإباحة: بأن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقص منها شيء؛ ذلك أن من فضائله وخصائصه أن جعل الأرض كلها مسجدًا، فلو خُصِّص منها شيء لكان نقصًا في فضيلته وما خصص به. قاله أبو عمر بن عبد البر. والصحيح ما صار إليه مالك، من كراهة الصلاة في تلك المواضع، لا تمسُّكًا بالحديث، فإنه ضعيف؛ لكن تمسَّكًا بالمعنى. وقد ذُكرت علل الكراهية في كتب أصحابه، فلتنظر هناك.
ويحتج على أبي عمر بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل وفي القبور؛ فإن الحديث في ذلك صحيح. وتمنع الصلاة في المواضع النجسة، فإن قال: ذلك
(1) رواه الترمذي (346)، وابن ماجه (746) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
"المجزرة": الموضع الذي يُنحر فيه الإبل، ويُذبح فيه البقر والشاء.
"معاطن الإبل": أي: مباركها حول الماء.
[416]
- وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فُضِّلتُ عَلَى الأَنبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعطِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وَنُصِرتُ بِالرُّعبِ، وَأُحِلَّت لِيَ الغَنَائِمُ، وَجُعِلَت لِيَ الأَرضُ طَهُورًا وَمَسجِدًا، وَأُرسِلتُ إِلَى الخَلقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ.
رواه مسلم (523)(5).
[417]
- وَعَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بُعِثتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرتُ بِالرُّعبِ، وَبَينَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرضِ فَوُضِعَت فِيَ يَدَيَّ.
ــ
للنجاسة العارضة؛ قلنا: وكذلك كراهة الصلاة في تلك المواضع لعلل عارضة، والله أعلم.
وقوله: وذكر خصلة أخرى؛ ظاهره أنه ذكر ثلاث خصال، وإنما هما اثنتان، كما ذكر؛ لأن قضية الأرض كلَّها خصلة واحدة، والثالثة التي لم يذكرها بيّنها النسائي من رواية مالك (1) بسنده، فقال: وأوتيت هذه الآيات: خواتم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن أحد قبلي، ولا يعطاهن أحد بعدي (2).
وقوله: أعطيت جوامع الكلم، قال الهروي: يعني القرآن؛ جمع الله في الألفاظ اليسيرة منه معانيَ كثيرة، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يتكلم بألفاظ يسيرة تحتوي على معانٍ كثيرة.
وقوله: وبينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي؛ هذه الرؤيا أوحى الله تعالى فيها لنبيه عليه الصلاة والسلام أن أمته ستملك الأرض،
(1) في السنن الكبرى للنسائي: أبو مالك الأشجعي.
(2)
رواه النسائي في السنن الكبرى (8022) من حديث حذيفة رضي الله عنه.