الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(41) باب تحويل القبلة من الشام إلى الكعبة، والنهي عن بناء المساجد على القبور وعن التصاوير فيها
[419]
- عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيتِ المَقدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهرًا - وفي رواية: أو سبعة عشر شهرا -، حَتَّى نَزَلَتِ
ــ
(41)
ومن باب: تحويل القبلة
قد تقدّم القول في: الشطر في الطهارة. وأحاديث تحويل القبلة من الشام - من بيت المقدس - فيها مسائل أصولية:
المسألة الأولى: نسخ السنة بالقرآن، أجازه الجمهور، ومنعه الشافعي، وهذه الأحاديث حجّة عليه. وكذلك قوله تعالى:{فَلا تَرجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ} ؛ نسخ لما قرّره رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والصلح على ردّ كل من أسلم من الرجال والنساء من أهل مكة، وغير ذلك.
المسألة الثانية: رفع القاطع بخبر الواحد؛ وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعًا به من الشريعة عندهم، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي فأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله، واستداروا نحو الكعبة، فتركوا التواتر بخبر الواحد، وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه؛ قال أبو حامد: والمختار: جواز ذلك عقلا لو تعبّدنا الشرع به، ووقوعه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه الصلاة والسلام يُنفِذ آحاد الولاة إلى الأطراف، وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعًا، لكن ذلك ممنوع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن المتواتر المعلوم لا يرتفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف، وبسط ذلك في الأصول.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المسألة الثالثة: وهي أن النسخ إذا وجد من الشارع، فهل يكون نسخًا في حق من لم يبلغه الناسخ؟ أو لا يكون نسخًا في حقه حتى يبلغه؟ اختلف فيه على قولين، وفائدة الخلاف في هذه المسألة في عبادات فُعلت بعد النسخ، وقبل البلاغ: هل تعاد أو لا؟ فإن قلنا بالأول، أعادها؛ إذ لم تكن عبادة في نفسها، وقد نسخت. وإن تنزَّلنا على الثاني لم يُعد؛ إذ هو مخاطب بفعل ما قد تقرر الأمر به، وهو الأولى. وقد ردّ إلى هذه المسألة مسألة الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم به، فهل يمضي تصرفه أو لا؟ قولان. وقد فرّق القاضي عياض بين مسألة النسخ ومسألة الوكيل: بأن مسألة الوكيل تعلق بها حق الغير على الموكّل، فلهذا توجه الخلاف فيها. ولم يختلف المذهب عندنا في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه: أنها أحكامُ حرٍّ فيما بينه وبين الناس، فأما ما بينه وبين الله فجائزة. ولم يختلفوا في المُعتَقَةِ أنها لا تعيد ما صلت - بعد عِتقِها وقبل علمها بغير ستر. وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب يغيِّر حكم عبادة وهو فيها؛ بناء على هذه المسألة.
المسألة الرابعة: خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف، معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجهه ولاته ورسله آحادًا للآفاق ليعلِّموا الناس دينهم، ويبلِّغوهم سنة رسولهم؛ من الأوامر والنواهي، والمخالف في ذلك معاند، أو ناقص الفطرة.
وقول البراء: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا - أو سبعة عشر شهرًا-. الصحيح: سبعة عشر؛ من غير شك. وهو قول مالك وابن المسيب وابن إسحاق. ويروى (1): ثمانية عشر شهرًا. وبعد سنتين. وبعد تسعة أشهر، أو عشرة أشهر، والصحيح ما ذكرناه أوّلا.
(1) في (ل): وقد روي.
الآيَةُ الَّتِي فِي البَقَرَةِ: {وَحَيثُ مَا كُنتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطرَهُ} فَنَزَلَت بَعدَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَانطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ، فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنَ الأَنصَارِ وَهُم يُصَلُّونَ، فَحَدَّثَهُم فَوَلَّوا وُجُوهَهُم قِبَلَ البَيتِ.
رواه أحمد (4/ 288)، والبخاري (40)، ومسلم (525)(11)، والترمذي (2966)، والنسائي (1/ 243)، وابن ماجه (1010).
[420]
- وعَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: بَينَمَا النَّاسُ فِي صَلاةِ الصُّبحِ بِقُبَاءٍ، إِذ جَاءَهُم آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَد أُنزِلَ عَلَيهِ اللَّيلَةَ، وَقَد أُمِرَ أَن يَستَقبِلَ الكَعبَةَ، فَاستَقبَلُوهَا وَكَانَت وُجُوهُهُم إِلَى الشَّامِ، فَاستَدَارُوا إِلَى الكَعبَةِ.
البخاري (403)، ومسلم (526)(13)، والترمذي (341)، والنسائي (2/ 61).
[421]
- وعَن عَائِشَةَ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَينَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوا عَلَى قَبرِهِ مَسجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلكِ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلقِ عِندَ اللَّهِ يَومَ القِيَامَةِ.
رواه أحمد (6/ 51)، والبخاري (427)، ومسلم (528)(16)، والنسائي (2/ 42).
ــ
وقوله: فاستقبلوها روي بفتح الباء على الخبر، وبكسرها على الأمر، وكلاهما صحيح.
وقوله: أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا تلك الصور، قال الشيخ: إنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنّسوا برؤية تلك الصورة، ويتذكروا بها أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله
[422]
- وَعَنهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَم يَقُم مِنهُ: لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ.
قَالَت: فلَولا ذَلِكَ أُبرِزَ قَبرُهُ، غَيرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَن يُتَّخَذَ مَسجِدًا.
رواه أحمد (6/ 34 و 80)، والبخاري (1330)، ومسلم (529)، والنسائي (2/ 40 - 41).
ــ
تعالى عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم إنهم خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان: أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فعبدوها، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدّد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسَدَّ الذرائع المؤدية إلى ذلك، فقال: اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد (1)، أي: أنهاكم عن ذلك. وقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد (2)، وقال: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد (3)، ولهذا بالغ المسلمون في سدّ الذريعة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَعلُوا حيطان تربته، وسَدُّوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يُتخذ موضع قبره قبلة - إذ كان مستقبل المصلين -، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره (4)، ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأُبرز قبره.
(1) رواه مالك في الموطأ (1/ 172) من حديث عطاء بن يسار رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (532)، وهو تتمة حديث جندب في التلخيص (424).
(3)
رواه مالك في الموطأ (1/ 172) من حديث عطاء بن يسار رضي الله عنه.
(4)
هذا الوصف يتوافق مع وَضْع القبر الشريف في عصر المؤلف. ثم طرأ عليه تعديل في العصر المملوكي ثم العثماني بحيث أصبح القبر ضمن حجرة مربعة تعلوه القبة الخضراء. فمن صلّى خلف الحجرة لم يكن مستقبلًا القبر لوجود الساتر.
[423]
- وَعَنهَا وَعَن عبد الله بنِ عَبَّاسٍ قَالا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجهِهِ، فَإِذَا اغتَمَّ كَشَفَهَا عَن وَجهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ. يُحَذِّرُ مِثلَ مَا صَنَعُوا.
رواه أحمد (6/ 275 و 299)، والبخاري (3453 و 3454)، ومسلم (531)، والنسائي (2/ 40).
[424]
- وَعَن جُندَبِ، قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبلَ أَن يَمُوتَ بِخَمسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي أَبرَأُ إِلَى اللَّهِ أَن يَكُونَ لِي مِنكُم خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي
ــ
تنبيه: وفي هذه الأحاديث ما يَستَدِلّ به مالك - على صحة القول بسد الذرائع - على الشافعي وغيره من المانعين لذلك، وهي مستوفاة في الأصول.
وقوله: لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعني: نزل به الموت. وطَفِقَ: أخذ وجعل، وهي من أفعال المقَارَبَة، وهي لا بدّ لها من اسم وخبر، إلا أن خبرها يلزم فيه أن يكون فعلا مجردًا عن أن، وقد قدّمنا القول في عسى، ويوشك.
والخميصة: كساءٌ له أعلام.
وقوله في حديث جندب: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ أي: أبعد عن هذا وأنقطع عنه. وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ بما تخلله من محبة الله تعالى وتعظيمه، فلا يتسع لمخالّة غيره، أو لأنه صلى الله عليه وسلم قد انقطع بحاجاته كلها إلى الله، ولجأ إليه في سدِّ خلاّته، فكفاه ووقاه، فلا يحتاج إلى أحد من المخلوقين، وقد تقدم القول في الخلّة والخليل.