الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب التشديد في النياحة، وما جاء في اتباع الجنائز
[803]
- عَن أَبِي مَالِكٍ الأَشعَرِيَّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَربَعٌ فِي أُمَّتِي مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ، لا يَترُكُونَهُنَّ: الفَخرُ فِي الأَحسَابِ، وَالطَّعنُ فِي الأَنسَابِ، وَالاستِسقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ، وَقَالَ: النَّائِحَةُ إِذَا لَم تَتُب قَبلَ
ــ
وفي الأم: أن عمر رضي الله عنه لما طعن عوّلت عليه حفصة (1). هكذا صحيح الرواية، وقد روي: أعوَلَت، وهما لغتان، غير أن الثانية أشهر وأفصح، وكلاهما من العويل، وهو البكاء ومعه صوت.
(6)
ومن باب: التشديد في النياحة
قوله صلى الله عليه وسلم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية؛ أي: من شأنهم وخصالهم.
ولا يتركونهن، يعني: غالبًا.
والفخر في الأحساب؛ يعني: الافتخار بالآباء الكبراء والرؤساء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس كلّهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب (2).
والطعن في الأنساب: استحقارُها وعيبُها، وقد تقدم الكلام على الاستسقاء بالنجوم. والاستسقاء: استدعاء السُّقيا وسؤالُه، وكأنهم كانوا يسألون من النجوم أن تسقيهم؛ بناءً منهم على اعتقادهم الفاسد في أن النجوم تُوجِد المطر وتخلقه.
(1) ينظر صحيح مسلم (2/ 640).
(2)
رواه أحمد (2/ 524)، وأبو داود (5116)، والترمذي (3950 و 3951) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
مَوتِهَا، تُقَامُ يَومَ القِيَامَةِ وَعَلَيهَا سِربَالٌ مِن قَطِرَانٍ، وَدِرعٌ مِن جَرَبٍ.
رواه أحمد (5/ 342)، ومسلم (934).
[804]
- وَعَن عَائِشَةَ، قَالَت: لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتلُ ابنِ حَارِثَةَ وَجَعفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبدِ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعرَفُ فِيهِ الحُزنُ. قَالَت: وَأَنَا أَنظُرُ مِن صَائِرِ البَابِ (شَقِّ البَابِ) فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ نِسَاءَ جَعفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَن يَذهَبَ فَيَنهَاهُنَّ، فَذَهَبَ فَأَتَاهُ، فَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَم يُطِعنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَن يَنهَاهُنَّ فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: وَاللهِ! لَقَد غَلَبنَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَت: فَزَعَمَت أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اذهَب فَاحثُ فِي أَفوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ. قَالَت عَائِشَةُ،
ــ
والسربال: واحد السرابيل، وهي: الثياب والقُمُص، يعني: أنّهنّ يلطَّخنَ بالقطِرَان، فيصير لهنّ كالقُمُص، حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم، ورائحته أنتن، وألمها بسبب الحر (1) أشدّ.
وقولها (2): من صائر الباب، قد فسّره في الحديث بشقّ الباب، وهكذا صحّت روايته. قال الإمام: والصواب: صِير الباب - بكسر الصاد -. وفي حديث آخر: من اطلَّع من صِير باب فقد دَمَر (3)، وهو شَقّ الباب، ودَمَر: دخل بغير إذن. وكون نساء جعفر لم يُطِعن الناهي لهنّ عن البكاء، إمّا لأنه لم يُصرِّح لهن بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن، فظننَّ منه أنه كالمحتسب في ذلك، وكالمرشد للمصلحة، أو لأنهن غُلبن في أنفسهن على سماع النهي؛ لحرارة المصيبة، والله تعالى أعلم.
وقوله: احثُ في أفواههنّ التراب؛ يدلّ على أنهنّ صرخن؛ إذ لو كان
(1) في (ظ) و (ط): الجرب.
(2)
في النسخ: قوله، والصواب ما أثبتناه.
(3)
انظره في النهاية لابن الأثير (3/ 66).
قُلتُ: أَرغَمَ اللهُ أَنفَكَ وَاللهِ مَا تَفعَلُ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا تَرَكتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ العَنَاءِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: مِنَ العِيِّ.
رواه البخاري (1299)، ومسلم (935)، وأبو داود (3122)، والنسائي (4/ 15)، وابن ماجه (1581).
[805]
- وَعَن أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَت: أَخَذَ عَلَينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مع البَيعَةِ أَلا نَنُوحَ،
ــ
بكاءً بالعين فقط، لما كان لملء أفواههنّ بالتراب معنًى، وليس أمره صلى الله عليه وسلم للرجل بذلك ليفعله بهن على كل حالٍ، ولكن على طريق أن هذا مما يُسكتهنّ إن فعلنه، فافعله إن أمكنك، وهو لا يمكنك. وفيه دليل على أن المنهي عن المنكر، إن لم ينته عوقب وأُدِّب إن أمكن ذلك، وإلا فالملاطفة فيه أولى إن وقعت.
وقول عائشة رضي الله عنها للرجل: أرغَمَ الله أنفك؛ أي: ألصقه الله بالرغام - وهو التراب -، دعت عليه؛ لأنها فهمت أنه أَحرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة تكراره عليه وإخباره ببكائهن، ولذلك قالت له: والله ما تفعل ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا تقدر على فعله، لتعذُّره: وما تركتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء. ولم تُرِد الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره.
ووقع في رواية العذري مكان: من العناء من الغيّ - بالغين المعجمة والياء المشدَّدة، الذي هو ضد الرشد، وعند الطبري مثله، إلا أنه بالمهملة. والأول أليق بالمعنى وأصح، وكذلك رواه البخاري.
وقول أم عطية: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننوح، دليل على تحريم النياحة، وتشديد المنع فيها؛ لأنها تستجلب الحزن، وتصدّ عن الصبر المحمود.
فَمَا وَفَت مِنَّا امرَأَةٌ إِلا خَمسٌ: أُمُّ سُلَيمٍ، وَأُمُّ العَلاءِ، وَابنَةُ أَبِي سَبرَةَ امرَأَةُ مُعَاذٍ، (أَوِ ابنَةُ أَبِي سَبرَةَ، وَامرَأَةُ مُعَاذٍ).
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَت أُمُّ عَطِيَّةَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِلا آلَ فُلانٍ فَإِنَّهُم كَانُوا أَسعَدُونِي فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ فَلا بُدَّ لِي مِن أَن أُسعِدَهُم. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِلا آلَ فُلانٍ.
رواه أحمد (6/ 408)، والبخاري (1306)، ومسلم (936)(31 و 33)، وأبو داود (3127)، والنسائي (7/ 148 - 149).
ــ
وقولها: فما وفت منّا امرأة إلَاّ خمس، ثم ذكرت ثلاثًا أو أربعًا، قال عياض: معناه: أنه لم يفِ ممن بايع معها على ذلك. وفي كتاب البخاري تكميلهنَّ، فقال: ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ، وامرأتان، أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى.
وقول أم عطية عند المبايعة: إلا آل فلان، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بدّ لي من أن أسعدهم، فقال: إلا آل فلان، أشكل هذا الحديث على العلماء، وكثرت فيه أقوالهم؛ فقيل فيه: إن هذا كان قبل تحريم النياحة. وهذا فاسد بمساق حديث أم عطية هذا، فإن فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن في البيعة: ألا يَنُحن. وذكر النياحة مع الشرك، وألا يعصينه في معروف، فلولا أن النياحة محرمة، لما أكدّ أمرها عليهن، وذكرها في البيعة مع محظورات أخر، ولَمَّا فهمت أم عطية التحريم استثنت.
وثانيها: أن ذلك خاص بأم عطية. وهذا أيضًا فاسد، فإنه لا يخصّها بتحليل ما كان من قبيل الفواحش كالزنى والخمر.
وثالثها: أن النهي عن النياحة إنما كان على جهة الكراهة، لا على جهة العزم
[806]
- وَعَنهَا، قَالَت: كُنَّا نُنهَى عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَم يُعزَم عَلَينَا.
رواه أحمد (6/ 409)، والبخاري (1278)، ومسلم (938)(34)، وأبو داود (3167)، وابن ماجه (1577).
* * *
ــ
والتحريم. وهذا أيضًا فاسد بما تقدَّم، وبقوله: أربع في أمتي من أمر الجاهلية. وبقوله: النائحة إذا لم تتب جاءت يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطران ودرع من حرب. وهذا وعيد يدل على أنه من الكبائر.
ورابعها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: إلا آل فلان، ليس فيه نص على أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء والبكاء الذي لا نياحة فيه، وهذا أشبهُ مِمَّا قبله.
وخامسها: أن يكون قوله: إلا آل فلان إعادةٌ لكلامها على جهة الإنكار والتوبيخ؛ كما قال للمستأذن حين قال: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أنا (1)، منكرًا عليه. ويدل على صحة هذا التأويل ما زاد النسائي في حديثٍ بمعنى حديث أم عطية، فقال: لا إسعاد في الإسلام (2)؛ أي: على النياحة. والله أعلم.
وقولها: نُهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يعزم علينا؛ أي: لم يحرم علينا، ولم يُشدّد علينا. وظاهر كلامها أنهن نُهين عن ذلك نَهي تنزيه وكراهة. وإلى منع ذلك صار جمهور العلماء لهذا النهي، ولقوله عليه الصلاة والسلام: ارجعنَ مأزورات غير مأجورات (3). وإليه ذهب ابن حبيب، وكرهه مالك للشابة، وفي الأمر
(1) رواه البخاري (6250)، ومسلم (2155)، وأبو داود (5187)، والترمذي (2712)، وابن ماجه (3759) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (3/ 197)، والنسائي (4/ 16) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
رواه ابن ماجه (1578) من حديث علي رضي الله عنه.