الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(53) باب فيمن لم يّدرِ كم صلى
؟
[460]
- عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُم فِي صَلاتِهِ فَلَم يَدرِ كَم صَلَّى ثَلاثًا أَم أَربَعًا، فَليَطرَحِ الشَّكَّ، وَليَبنِ عَلَى مَا استَيقَنَ، ثُمَّ يَسجُدُ سَجدَتَينِ قَبلَ أَن يُسَلِّمَ،
ــ
(53)
ومن باب: فيمن لم يَدرِ كم صلى (1)
قوله في حديث أبي سعيد: إذا شك أحدكم في صلاته، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن: تمسك بظاهره جمهور أهل العلم في إلغاء المشكوك فيه، والعمل على المتيقن، وألحقوا المظنون بالمشكوك في الإلغاء، وردّوا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: فليتحرّ الصواب من ذلك إلى حديث أبي سعيد هذا، ورأوا أن هذا التحري هو القصد إلى طرح الشك، والعمل على المتيقن. وقال أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم: إن التحري هنا هو البناء على غلبة الظن. وأما أبو حنيفة فقال: ذلك لمن اعتراه ذلك مرة بعد مرة، فأما لأَوَّل ما ينوبه، فليبن على اليقين، وكأن أبا حنيفة جمع بين الحديثين باعتبار حالين للشاكّ.
وقوله: ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم: احتج بظاهره الشافعي لأصل مذهبه على أن سجود السهو كله قبل السلام. وقال الداودي: اختلف قول مالك في الذي لا يدري ثلاثًا صلى أم أربعًا؟ فقال: يسجد قبل السلام، وقال: بعد السلام، والصحيح من مذهبه في هذه الصورة: السجود بعد السلام. وقد اعتلَّ أصحابنا لهذا الحديث بأوجه:
أحدها: أنه يعارضه حديث ذي اليدين؛ حيث زاد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سجد بعد
(1) ورد هذا العنوان لاحقًا، وقدَّمناه هنا لمناسبته.
فَإِن كَانَ صَلَّى خَمسًا شَفَعنَ لَهُ صَلاتَهُ،
ــ
السلام، وهو حديث لا علّة له، وحديث أبي سعيد أرسله مالك عن عطاء، وأسنده غيره، فكان هذا اضطرابًا فيه، والتسلِيم عن ذلك أرجح.
وثانيها: أن قوله: قبل أن يسلم؛ يحتمل أن يريد به السلام على النبي صلى الله عليه وسلم الذي في التشهد، وهو قوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله. فكأنه سجد ولم يستوف التشهد.
وثالثها: أنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سها عن إيقاعه بعد السلام، فأوقعه قبله واكتفى به؛ إذ قد فعله، ولا يتكرر سجود السهو، ولا يعاد.
ورابعها: يحتمل أن يكون شك في قراءة السورة، في إحدى الأوليين، فيكون معه زيادة الركعة ونقصان قراءة السورة، فَغُلِّبَ النقصان.
وخامسها: أن السجود في هذه الصورة قبل السلام؛ لأن الزيادة متوهمة مقدورة، بخلاف الزيادة المحققة؛ كما في حديث ذي اليدين؛ فإنه لما تحققت الزيادة سجد بعد السلام، وهذا إنما يتمشَّى على ما رواه الداوُدي عن مالك على ما تقدم، وعليه حمله ابن لبابة.
وسادسها: أن حديث أبي سعيد محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك بيان جواز سجود ما بعدُ و [ما](1) قبلُ، وهذا إنما يتمشى على رواية من روى أن الترتيب في سجود السهو إنما هو من باب الأولى على ما تقدم، وهذا أشبهها، فإنه جمعٌ بين الأحاديث على وجه حسن، وعلى مذهب الطبري وغيره - ممن قال بالتخيير، فيسجد للنقص والزيادة قبل أو بعد، أيَّ ذلك شاء فعل، وفي المجموعة عن مالك نحوه، والله تعالى أعلم.
وقوله: فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته؛ يعني: أنه لما شك هل
(1) ساقط من (ع).
وَإِن كَانَ صَلَّى إِتمَامًا لأَربَعٍ كَانَتَا تَرغِيمًا لِلشَّيطَانِ.
رواه أحمد (3/ 87)، ومسلم (571)، وأبو داود (1024 و 1026 و 1027 و 1029)، والترمذي (396)، والنسائي (3/ 27)، وابن ماجه (1210).
ــ
صلى ثلاثًا أو أربعًا، وبنى على الثلاث، فقد اطّرح الرابعة، مع إمكان أن يكون فعلها، فإن كان قد فعلها فهي خمس، وموضوع تلك الصلاة شفع، فلو لم يسجد لكانت الخامسة لا تناسب أصل المشروعية، فلما سجد سجدتي السهو ارتفعت الوتريَّة، وجاءت الشفعيَّة المناسبة للأصل، والله أعلم.
والنون في شفعن هي نون جماعة المؤنث، وعادت على معنى فعلات السجدتين، مشيرًا إلى ما فيها من الأحكام المتعددة.
وقوله: وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان؛ معناه: غيظًا للشيطان، ومذلّة له؛ لأنه لما فعل أربع ركعات أتى بما طلب منه، ثم لما انفصل زاد سجودًا لله تعالى؛ لأجل ما أوقع الشيطان في قلبه من التردد، فحصل للشيطان نقيض مقصوده؛ إذ كان إبطال الصلاة، فقد صحت، وعادت وسوسته بزيادة خير وأجر. والترغيم: مأخوذ من الرَّغَام؛ وهو التراب كما تقدم.
وقوله في حديث ابن بحينة: فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر فسجد؛ أي: فرغ من أركانها عدا السلام. ونظرنا: انتظرنا، ومنه:{انظُرُونَا نَقتَبِس مِن نُورِكُم} ؛ أي: انتظرونا. وهذا التكبير المعقب بالسجود لسجود السهو قولا واحدًا، لا للإحرام؛ لأنه لم ينفصل عن حكم الإحرام الأول. واختلف في التكبير للَّتبيَين بعد السلام، هل هو للإحرام أو للسجود؟ روايتان عن مالك. والأولى أنه للإحرام، ولا بد من نيته؛ لأنه قد انفصل عن حكم الصلاة؛ ولأنه
[461]
- وَعَن عَلقَمَةَ قَالَ: قَالَ عبد الله: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ إِبرَاهِيمُ بنُ سُوَيدٍ: زَادَ أَو نَقَصَ، الوَهمُ مِنهُ) فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيءٌ؟
ــ
لا بدّ لهما من (1) سلام ينفصل به، كما يحرِمُ به قياسًا على سائر الصلوات، وإلى هذا أشار في حديث ذي اليدَين، حيث قال: فصلى ركعتين، ثم كبر، ثم سجد، ثم كبر. فإنه عطف السجود على التكبير بثم التي تقتضي التراخي، ولو كان التكبير للسجود لكان معه، ومصاحبًا له، ألا تراه كيف قال في بقية الحديث: ثم كبر وركع، ثم كبر وسجد، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع، فعدل عن ثم في مواضع المقارنة، وهذا ظاهر.
وقوله: فسجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم حجة لمالك في قوله: إن السجود للنقص قبل، وعلى أبي حنيفة في قوله (2): إن السجود للسهو كله بَعدُ، وحَملُ أبي حنيفة هذا السلام على سلام التشهد فاسد قطعًا بمساق الحديث، فتأمله.
وقوله: مكان ما نسي من الجلوس: دليل على أن الذي يجبر بسجود السهو إنما هو ما كان (3) من قبيل سنن الصلاة، أما أركانها وواجباتها فلا بد من الإتيان بها؛ إذ لا تصح بدون ذلك، أما فضائلها: فغايتها تكميل الثواب، فلو أسقطها المصلي ابتداء لصحّت صلاته اتفاقًا، وليس كذلك السنن، فقد قيل: إن من تركها متعمدًا أعاد الصلاة.
وقولهم في حديث ابن مسعود: أَحَدَث في الصلاة شيء؟ سؤال عن
(1) في (ع): ولأنه أخرهما عن.
(2)
ساقط من (ع).
(3)
في (ع): يكون.
قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَثَنَى رِجلَهِ وَاستَقبَلَ القِبلَةَ، فَسَجَدَ سَجدَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقبَلَ عَلَينَا بِوَجهِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَو حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيءٌ أَنبَأتُكُم بِهِ، وَلَكِن إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَنسَى كَمَا تَنسَونَ،
ــ
جواز النسخ على ما ثبت من العبادة، ويدل هذا: على أنهم كانوا يتوقعونه.
وقوله: وما ذاك؟ سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يقين عنده، ولا غلبة ظن.
وقولهم: صليت كذا أو كذا: إخبار من حقق ما وقع. وقبول النبي صلى الله عليه وسلم قول المخبِر عما وقع له دليل على قبول الإمام قول من خلفه في إصلاح الصلاة، إذا كان الإمام على شك، بلا خلاف. وهل يشترط في المخبر عدد؛ لأنه من باب الشهادة، أو لا يشترط ذلك، لأنه من باب قبول الخبر؟ قولان:
الأول: لأشهب وابن حبيب، وأما إن كان الإمام جازمًا في اعتقاده بحيث يصمم عليه، فلا يرجع إليهم، إلا أن يفيد خبرهم العلم فيرجع إليهم، وإن لم يفد خبرهم العلم؛ فذكر ابن القصّار في ذلك عن مالك قولين: الرجوع إلى قولهم، وعدمه. وبالأول قال ابن حبيب، ونصه: إذا صلى الإمام برجلين فصاعدًا فإنه يعمل على يقين من وراءه، ويدع يقين نفسه، قال المشايخ: يريد الاعتقاد.
وبالثاني قال ابن مسلمة، ونصّ ما حكي عنه: يرجع إلى قولهم إن كثروا، ولا يرجع إذا قلّوا، وينصرف، ويُتِمّون لأنفسهم.
وقوله: لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به: يفهم منه أن الأصل في الأحكام بقاؤها على ما قُرِّرَت وإن جوز غير ذلك، وأن تأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة.
وقوله: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون: دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع. قال القاضي عياض: وهو
فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، فإِذَا شَكَّ أَحَدُكُم فِي الصَلاة فَليَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَليُتِمَّ عَلَيهِ، ثُمَّ يَسجُد سَجدَتَينِ.
وَفي رِوَايَةٍ: فَليَنظُر أَحرَى ذَلِكَ إلى الصَّوَابِ.
وَفي أُخرَى: فَليَتَحَرَّ أَقرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ.
ــ
مذهب عامة العلماء والأئمة النظار، وظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك، ولا يقرّه عليه، ثم اختلفوا: هل من شرط التنبيه اتصاله بالحادثة على الفور؟ وهذا مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره، وينقطع تبليغه؟ وإليه نَحَا أبو المعالي. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية، والعبادات الشرعية، كما منعوه اتفاقًا في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق، وشذّت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب، فقالوا: لا يجوز النسيان عليه، وإنما يَنسَى قصدًا، ويتعمد صورة النسيان ليسنّ، ونحا إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق؛ وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه الأوسط، وهذا مَنحىً غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد.
قلت: والصحيح أن السهو عليه جائز مطلقًا؛ إِذ هو واحد من نوع البشر، فيجوز عليه ما يجوز عليهم إذا لم يقدح في حاله، وعليه نبّه حيث قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، غير أن ما كان منه فيما طريقه بلاغ الأحكام قولا أو فعلا، لا يقرّ على نسيانه، بل ينبَّه عليه إذا تعينت الحاجة إلى ذلك المبلغ، فإن أقر على نسيانه ذلك، فإنما ذلك من باب النسخ؛ كما قال تعالى:{سَنُقرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ}
وقوله: فليتحرّ الصواب فليتمّ عليه، و (فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب) ظاهره ما صار إليه الكوفيون من عمله على غلبة ظنه، وقد ذكرنا أن
وَفي أُخرَى: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَو نَقَصَ فَليَسجُد سَجدَتَينِ، قَالَ: ثُمَّ سَجَدَ سَجدَتَينِ.
وَفي أُخرَى: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صلى خَمسًا (مِن غَيرِ شَكٍّ).
رواه أحمد (6/ 28)، والبخاري (1226)، ومسلم (572)(89 و 90 و 92 و 96)، وأبو داود (1019 - 1022)، والترمذي (392 و 393)، والنسائي (3/ 31 - 33)، وابن ماجه (1211).
* * *
ــ
الجمهور ردّوه إلى حديث أبي هريرة، وهذا لم تضم إليه ضرورة تعارض، إذ يمكن أن يحمل كل واحد من الحديثين على حالة غير الأخرى، فَيَحملُ حديث أبي هريرة فيمن شك، ويحمل هذا الحديث فيمن ظنّ، ولا تعارض بينهما، والتحرّي وإن كان هو القصد، كما قال تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوا رَشَدًا} فكما يُقصَدُ المتيقَّن يُقصَدُ المظنون، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: الموجب لتأويل هذا الحديث وردّه إلى حديث أبي هريرة: أن الصلاة في ذمته بيقين، ولا تبرأ ذمته إلا بيقين، قلنا: لا نسلِّم، بل تبرأ ذمته بغلبة الظن؛ بدليل: أن صحة الصلاة تتوقف على شروط مظنونة باتفاق؛ كطهارة النجاسة، وطهارة الحدث باختلاف، والموقوف على المظنون مظنون، فلا يلزم اليقين، وإن كان الأولى هو اليقين، والله تعالى أعلم.
وقوله: إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين: يقتضي التسوية بين ما كان للنقص، وبين ما كان للزيادة، فإما أن يكون هذا الأمر بهما على الوجوب، أو على الندب. والتفرقة التي حكيناها عن أصحابنا مخالفة لهذا الظاهر فتلغى.
وقوله في الرواية الأخرى التي لا شك فيها: أنه صلى الله عليه وسلم صلى خمسًا ثم سجد؛ حجة على أبي حنيفة حيث قال: تبطل الصلاة بزيادة الخامسة، وهو حجة