الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول الحَث عَلى تعَلّم النّاسِخ والمَنسُوخ وبَعض مَا ورَد فيهِ عِن السّلف
الحث على تعلم الناسخ والمنسوخ:
إن هذا الفن كان محط أنظار السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة ومن تلاهم من العلماء، فقد أولوه عناية عظيمة، وحرصوا على معرفته لما له من أهمية ومكانة عندهم من بين سائر العلوم الشرعية، ولتعلق الأحكام به وترتيب المصالح عليه.
وقد زجروا من يتجرأ على الفتوى أو تفسير نصوص القرآن والسنة بدون أن يكون له علم ومعرفة به. وشددوا في النهي عن ذلك، بل كان بعضهم يضرب القاص إذا وجده يقص على الناس وهو لا يعرف هذا الفن.
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أعرف الناس بالقرآن والتنزيل، ولكن لم يكن أحد منهم يقدم على شيء من الأحكام فيقول هذا حلال وهذا حرام، مخافة الوقوع في الحرج، خوفًا وورعًا منه، لأنه ربما يكون قد حصل تغيير في بعض الأحكام لم يعلم به أو لم يسمعه، ولذلك امتنع كثير منهم عن الفتوى حتى في الأحكام الظاهرة وقد روى ابن عبد البر (1) في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سئل عن مسألة في كتاب الله فقال: أي سماء تظلني أو أي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم (2).
(1) هو الإِمام الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله ابن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة 463 هـ.
انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 3/ 1128، وطبقات الحفاظ ص 432، وبغية الملتمس ص 395، وجذوة المقتبس ص 344 والديباج المذهب ص 375، والرسالة المستطرفة ص 15، وشذرات الذهب 3/ 314، والصلة 2/ 177، والعبر 3/ 255، ووفيات الأعيان 1/ 348.
(2)
جامع بيان العلم 2/ 64، والجامع الكبير للسيوطي، مسند أبي بكر الصديق ص 45 مطبوع في جزء مستقل بمفرده طبع في الهند. وكنز العمال 3/ 301، وتفسير ابن جرير 1/ 78 تحقيق أحمد شاكر. وقد روى نحوه أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة 224 هـ عن أبي بكر أنه سئل عن قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} وذكر نحو هذا. قال ابن كثير في تفسيره 4/ 501 بعد إيراده: إسناده منقطع. وانظر مسند أبي بكر للسيوطي ص 36 - 37 وقال: رواه أبو عبيد في الفضائل وعبد بن حميد.
وأخرج ابن جرير (1) الطبري بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ سورة {عَبَسَ وَتَوَلَّى} حتى أتى إلى قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (2) فقال: فقد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب، إن هذا هو التكليف (3).
وأخرج الدارمي عن محمد بن (4) سيرين قال: سئل حذيفة رضي الله عنه عن مسألة فقال: إنما يفتي الناس ثلاثة: رجل إمام، أو وال، أو رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، قالوا: ومن يعلم ذلك؟ قال: عمر بن الخطاب، أو أحمق متكلف (5).
وأخرج النحاس في الناسخ والمنسوخ: عن ابن عباس رضي الله عنهما مرّ عليّ رجل وهو يقص على الناس فركضه برجله وقال: تدري ما الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت (6).
وروى ابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مرّ على أبي الدرداء رضي الله عنه -وهو يقص على الناس وكان قد استأذن من عمر أن يقص على الناس- ثم ضربه عمر رضي الله عنه بالدرة (7).
وروى النحاس والحازمي وابن الجوزي عن علي رضي الله عنه، أنه أخرج القاص من
(1) الإِمام الحافظ الفقيه المجتهد المفسر محمَّد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، أبو جعفر الطبري، صاحب التفسير المشهور، أحد الأئمة الأعلام والعلماء البارزين، غني عن التعريف، توفي سنة 310 هـ. له ترجمة في: طبقات المفسرين للسيوطي ص 82 وطبقات الداودي 2/ 106 رقم الترجمة 468، وانظر ما فيها من مصادر.
(2)
سورة عبس- آية: 1، 31.
(3)
انظر: تفسير ابن جرير 30/ 59، وتفسير ابن كثير 4/ 501، وقال: إسناده صحيح.
(4)
محمَّد بن سيرين بن أبي عمرة الأنصاري، أبو بكر الإمام، من الطبقة الوسطى من التابعين، كبير القدر، ثقة عابد، كان لا يرى الرواية بالمعنى، توفي سنة 110 هـ (عشر ومائة).
انظر: تقريب التهذيب ص 301، وتهذيب التهذيب 9/ 214 وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/ 414.
(5)
سنن الدارمي المقدمة 1/ 56، رقم الحديث 177، 178، ونواسخ القرآن لابن الجوزي - تحقيق الزميل محمَّد أشرف علي ص 109 - 110، وقد ساق ابن الجوزي كثيرًا من الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في الحث على هذا.
(6)
الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 5، والاعتبار ص 6، وانظر ص 126 من مقدمة المؤلف، ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص 109.
(7)
قال السيوطي في تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ص 189: أخرجه ابن عساكر. وانظر مختصر ابن عساكر لأن منطور 6/ 260.
مسجد الكوفة ونهاه عن القصص (1).
وعن يحيى بن أكثم (2) رحمه الله قال: ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين، وعلى كافة المسلمين من ناسخ القرآن، لأن الأخذ بناسخه واجب فرضًا، والعمل به واجب لازم دينًا، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهي إليه، فالواجب على كل عالم عِلْمُ ذلك لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرًا لم يوجبه الله أو يضع عنهم فرضًا أوجبه الله (3).
وقال الإِمام الزهري رحمه الله: "أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه"(4).
وقال بعض العلماء: لا يحل أن يفتي في دين الله إلَّا رجل عارف بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباللغة، ويكون مشرفًا على اختلاف علماء الأمصار، وله قريحة، فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام (5).
وقال ابن (6) حزم: لا يجوز لمسلم يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يقول في شيء من
(1) أخرجه النحاس ص 4 في الناسخ والمنسوخ، وهبة الله بن سلام ص 4، والحازمي في الاعتبار ص 6، وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص 115 - 118، وانظر: الدر المنثور 1/ 106، وسيأتي ذكره في مقدمة المؤلف ص 126.
(2)
هو يحيى بن أكثم بن محمَّد بن قطن التميمي المروذي أبو محمَّد القاضي المشهور، فقيه صدوق، من العاشرة، مات آخر سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومئتين وله ثلاث وثمانون سنة. قال ابن حجر، والذهبي: اتهم بسرقة الحديث، ولم يقع ذلك له، وإنما كان يرى الرواية بالإجازة والوجادة.
المغني في الضعفاء 2/ 730، والتقريب لابن حجر ص 373.
(3)
جامع بيان العلم وفضله 2/ 35 لابن عبد البر ومراد يحيى بن أكثر أن هذا واجب كفائي لا عيني.
(4)
أخرجه ابن عساكر عنه في ترجمته في تاريخ دمشق. انظر ص 143 ترجمة الزهريّ المطبوعة في جزء مستقل من تاريخ ابن عساكر تحقيق شكر الله بن نعمة الله قوجاني، وقال: أخرجه أبو زرعة في تاريخه 1/ 620، عن الزهريّ أيضًا.
وفي سير أعلام النبلاء 5/ 346، ومقدمة ابن الصلاح ص 278، والاعتبار ص 5، وإعلام العالم ص 5، وفتح المغيث 3/ 61، وتدريب الراوي 2/ 190.
(5)
عمدة التفاسير عن تفسير ابن كثير 4/ 417 بتحقيق أحمد شاكر، وعزاه لابن جرير.
(6)
هو الإِمام الحافظ أبو محمَّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأندلسي المتوفى سنة 456 هـ.
انظر ترجمته في: نفح الطيب 1/ 364، ولسان الميزان 4/ 198، وبغية الملتس ص 403، والأعلام 4/ 254.
القرآن والسنّة: هذا منسوخ إلَّا بيقين (1). وساق الأدلة على ذلك.
وقال أبو بكر الحازمي: معرفة ناسخ حديث رسول الله ومنسوخه علم جليل ذو غور وغموض، دارت فيه الرؤوس، وتاهت في الكشف عن مكنونه النفوس، وتوهم بعضهم ممن لم يحظ من معرفة الآثار، إلَّا بآثار أن الخطب فيه جلل يسير، والمحصول منه قليل غير كثير، ومن أمعن النظر في اختلاف الصحابة في الأحكام المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم اتضح له ما قلناه (2).
ثم قال: وهذا الفن من تتمات الاجتهاد، إذ الركن الأعظم في باب الاجتهاد ومعرفة النقل، ومن فوائد معرفة النقل -الناسخ والمنسوخ- إذ الخطب في ظواهر الأخبار يسير، وتجشم كلفها غير يسير، وإنما الإِشكال في كيفية استنباط الأحكام من خبايا النصوص، ومن التحقيق فيها معرفة أول الأمرين من آخرهما إلى غير ذلك من المعاني (3).
وقال القرطبي (4): ومعرفة علم الناسخ والمنسوخ ركن عظيم لا يستغنى عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلَّا الجهالة الأغبياء، لما يترتب عليه من معرفة الحلال والحرام، ثم نقل قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (5) فقال: معرفة الناسخ والمنسوخ (6). وهذا ذكر نحوه الزركشي في البرهان (7)، والسيوطي في الإِتقان (8)، وغيرهم من علماء الإِسلام.
والآن وقد اتضح لنا أن العلم بهذا الفن عظيم الشأن في فهم الأحكام، وتميز الحلال من الحرام، ومعرفة أول الأمرين من آخرهما وناسخهما من منسوخهما، وتشدد
(1) انظر: أصول الأحكام لابن حزم 4/ 83 - 84.
(2)
الاعتبارص 4 - 5.
(3)
الاعتبار ص 5.
(4)
هو: أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي من أهل قرطبة، من كبار المفسرين، توفي سنة 671 هـ في شمال أسيوط بمصر.
انظر ترجمته في: الديباج المذهب 2/ 308 - 309، ونفح الطيب 1/ 428، ومقدمة تفسيره المجلد الأول ص و - ز، والأعلام 5/ 322. والواقي بالوفيات 2/ 122 - 123.
(5)
سورة البقرة - آية: 269.
(6)
تفسير القرطبي 3/ 330، ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص 10 وتفسير ابن جرير 3/ 60.
(7)
البرهان 1/ 28.
(8)
الاتقان 3/ 66 - 67.
السلف، واحتياطهم في هذا الباب حتى لا يتجرأ الجهّال على ادعاء النسخ، ولا يحكم به عن اجتهاد (1) ، لأنه لا مجال للاجتهاد في هذا الباب.
وعلمنا ما حظي به هذا العلم من العناية البالغة والدراسة الواسعة، وسنعرف بعد هذا من اعتنى بتدوينه من العلماء من أهل الحديث والفقه والأصول والتفسير وغيرهم، وبعد هذا أصبح من الضروري تعلم هذا العلم وفهمه على طلاب الدراسات الإسلامية، وعلى كل عالم ومتعلم متخصص وغير متخصص، ممن ولي من أمور الناس شيئًا من القضاء، أو الإفتاء، ومن له سلطان في تنفيذ الأحكام الشرعية.
كما أنه يجب على الدعاة إلى الله أيضًا بأن يكونوا على علم به، لأنه ربما تعترضهم بعض الشبهات الواردة حول قضايا النسخ، فيقف الواحد منهم لا يدري ماذا يقول. فلا بدّ له من معرفة هذا العلم حتى يتمكن من دفع الشبهات والرد عليها وبيان بطلانها وزيفها، وإظهار ما هو الحق والصواب في قضايا النسخ.
(1) انظر: النسخ في القرآن للدكتور مصطفى زيد 1/ 112.