الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دُرٍّ كلما غاص في بحر فِطنته استخرج دُرًّا وغيره يستخرج آجُرًّا»
(1)
. وهذا الذي ذكرنا لا ينافي أن العلم بوجوب الصلاة من الفقه في الاصطلاح الخاص على الصحيح.
لكن الفقه أوسع من ذلك في التعريف العام ونصوص الوحي وفهم السلف، فهو يشمل المعارف الإسلامية جملة، بل ويشمل الممارسة العملية
(2)
بالقلب والجوارح، فهي المقصودة، ولذا جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
(3)
. ومعلومٌ أنه لا يحوز الخير حتى يعمل بما علِم مخلصًا لله تعالى.
أما المقصود من حديثنا عن التداخل بين الفقه والطب فهو الفقه حسَب التعريف الخاص.
تعريف الطب:
الطِّب، هو كما قال ابن طرخان
(4)
في تعريفه: «الطِّب: بكسر الطَّاء، في لغة العرب يقال على معانٍ: منها الإِصلاح، يقال: طبَّبته إذا أَصلحته. ويقال: لفلان طِب بالأمور، أي: لطف وسياسة
…
قال الشاعر:
وَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا كُنتَ الطَّبِيبَ لَهَا بِرَأْيٍ ثاقِبِ
(1)
«المَنْثُور في القواعد» للزَّرْكَشِيّ (1/ 67).
(2)
انظر «أصول البَزْدَوِيّ» (1/ 4)؛ وفيه تقسيم الفقه إلى ثلاث مراحل: معرفة الأحكام، ثم إتقان ذلك بمعرفة الدليل وطريق الاستنباط، ثم العمل بذلك العلم.
(3)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1/ 39)، «صَحِيح مُسْلِم» كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة (2/ 718).
(4)
هو: أبو الحسن علي بن مُهَذَّب الدين أبو المكارم عبد الكريم بن طَرْخَان بن تقي الدين الحَمَوِيّ الصَّفَدِيّ، الطبيب، المتوفى سنة 759 تسع وخمسين وسبعمائة. صنف:«الطب النبوي» ، «مطلع النجوم في شرف العلماء والعلوم» . راجع ترجمته في «هَدِيَّة العَارِفِين» (1/ 384).
ومنها (الحِذْق) لاحتياجه إلى حذقٍ قويٍّ
…
قال الجَوْهَريّ رحمه الله
(1)
: وكلُّ حاذقٍ طَبِيبٌ عند العرب. قال أبو عبيدة
(2)
: أصل الطب: الحِذق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل طبٌّ وطبيب إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المريض. قال غيره: ورجل طبيب أي: حاذقٌ، وسُمِّيَ طبيبًا لحِذقه وفِطنته. وأما في اصطلاح علماء الطب فهو: علمٌ يعرف منه أحوالُ بدن الإنسان من جهة ما يصح، ويزول عن الصحة، لتُحفَظ الصحة حاصلة، وتُستَردَّ زائلةً»
(3)
.
ومن أجمل ما وصف به الطب ما ذكره العز بن عبد السلام
(4)
رحمه الله حيث قال: «فإن
(1)
هو: أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجَوْهَرِيّ، لغوي من الأئمة، أصله من فاراب ودخل العراق صغيرا، وسافر إلى الحجاز فطاف البادية، وعاد إلى خُراسان، ثم أقام في نَيْسابُور. أشهر كتبه الصِّحَاح، وله كتاب في العَروض، ومقدمة في النحو. توفي: سنة 393 هـ. راجع ترجمته في: «السِّيَر» للذَّهَبِيّ (17/ 80)، «طَبَقَات الشَّافِعِيَّة» لابن قاضي شُهْبَة (1/ 262 - 265)، «شَذَرَات الذَّهَب» لابن العِمَاد (3/ 142، 143).
(2)
هو: أبو عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى، التَّيْمِيّ، مولاهم، البَصْرِيّ النَّحْوِيّ اللُّغَوِيّ، يقال: مولى بنى عبيد الله ابن مَعْمَر التَّيْمِيّ من كبار أتباع التابعين. توفي: سنة 208 هـ، روى له البخاري تعليقا وأبو داود. قال المبرد: كان هو والأصمعي متقاربين في النحو، ولكن قال ابن قتيبة: كان الغريب وأيام الغريب أغلب عليه، قال فيه ابن حَجَر: صدوق أخباري، وقد رمي برأي الخوارج. وقال الذَّهَبِيّ: ثقة. راجع ترجمته في: «تَهْذِيب الكَمَال» (28/ 316)، «السِّيَر» للذَّهَبِيّ (9/ 445)، «تَذْكِرَة الحُفَّاظ» (1/ 371).
(3)
«الأحكام النبوية في الصناعة الطبية» لعلاء الدين الكَحَّال (ص 25).
(4)
هو: عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السُّلَمِيّ الدِّمَشْقِيّ، الفقيه الشافعي الأصولي الفذ، الملقب بسلطان العلماء، ولد سنة 577 هـ في دمشق ونشأ بها، تولى الخطابة والتدريس بزاوية الغَزاليّ، ثم الخطابة بالجامع الأُمَوِيّ. توفي: بالقاهرة سنة 660 هـ. من كتبه: «التفسير الكبير» «الإلمام في أدلة الأحكام» «قواعد الشريعة» «الفوائد» «قَوَاعِد الأحْكَام» ، «ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام» ، «بداية السول في تفضيل الرسول». راجع ترجمته في:«طَبَقَات الشَّافِعِيَّة الكُبْرَى» للسُّبْكِيّ (8/ 209)، «طَبَقَات الشَّافِعِيَّة» لابن قاضي شُهْبَة (2/ 109).
الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، وجلب ما أمكن جلبه من ذلك. فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع، فإن تساوت الرتب تخيَّر وإن تفاوتت استعمل الترجيح»
(1)
.
وقال الدكتور محمد علي البار
(2)
في تعريف الطب في الاصطلاح: «الطب هو علاج الجسم والنفس. يقال طَبَّه طِبَّا إذا داواه. وقال ابن سينا
(3)
في «أُرجُوزَتِه» : «الطِبُّ حفظ صحة، بُرء مرض» . وقال في «القانون» : «الطِبُّ علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح، ويزول عن الصحة، ليَحفَظَ الصحة حاصلةً، ويسترِدَّها زائلةً» . وقال ابن رُشْد
(4)
الفقيه الطبيب صاحب «بِدَايَة المُجْتَهِد ونهاية المقتصد» في الفقه
(1)
«قَوَاعِد الأحْكَام في مصالح الأنام» للعز بن عبد السلام (1/ 4).
(2)
هو: محمد علي البار، مستشار قسم الطب الإسلامي، مركز الملك فهد للبحوث الطبية بجامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة. ولد سنة 1939 م، وحصل على بكالوريوس الطب والجراحة (درجة الشرف) من جامعة القاهرة في عام 1964 م وزمالة الكلية الملكية للأطباء بلندن في عام 1994 م. شارك في مؤتمرات المجامع الفقهية التابعة لرابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وشارك كذلك في ندوات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. له العديد من الكتب، منها:«خلق الإنسان بين الطب والقرآن» «الخمر بين الطب والفقه» «العدوى بين الطب وحديث المصطفى» «عمل المرأة في الميزان» «الوجيز في علم الأجنة القرآني» «المسيح المنتظر وتعاليم التلمود» «تيه العرب وتيه بني إسرائيل» .
(3)
هو: شرف الملك أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، الفيلسوف الرئيس، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات، وكذلك في الإلهيات، ولم يكن كلامه فيها مرضيًّا عند العلماء. أصله من بلخ، ولد في إحدى قرى بخارى سنة 370 هـ، وتوفي في همذان سنة 428 هـ. أشهر كتبه:«القانون» في الطب بقي معوَّلًا عليه في علم الطب وعمله ستة قرون، وترجمه الفرنج إلى لغاتهم، وكانوا يتعلمونه في مدارسهم. ومن تصانيفه أيضًا:«المعاد» ، «الشفاء» في الحكمة. راجع ترجمته في:«تَذْكِرَة الحُفَّاظ» للذَّهَبِيّ (3/ 1086)، «لِسَان المِيزان» لابن حَجَر (2/ 291).
(4)
هو: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رُشْد الأندَلُسِيّ، من أهل قُرْطُبة، ولد سنة 520 هـ، فقيه نظار محقق مجتهد متبحر في الفنون، وكان قد اشتغل بالفلسفة واعتنى بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات كثيرة. توفي: سنة 595 هـ. من مصنفاته: «منهاج الأدلة» في الأصول، «المسائل» في الحكمة، «تهافت التهافت» في الرد على الغَزاليّ، «بِدَايَة المُجْتَهِد ونهاية المقتصد» في الفقه، «جوامع كتب أرسطاطاليس» في الطبيعيات والإلهيات، «تلخيص كتب أرسطو» «الكليات». راجع ترجمته في:«العبر في أخبار من غبر» للذَّهَبِيّ (4/ 47)، «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي (6/ 154)، «شَذَرَات الذَّهَب» (2/ 62).
و «الكليات»
(1)
في الطب: «الطِبُّ علم يعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يعرض له من صحة وفساد» . ونسب إلى جالينوس أنه قال: «الطب علم بأحوال بدن الإنسان يُحْفَظ به حاصلُ الصحة ويُستَرَدُّ زائلُها»
(2)
.
قلت: الطب هو التصرف بما فيه عافية الإنسان في بدنه وعقله ونفسه، بتعاطي أسبابها الطبيعية؛ والعلم بذلك هو علم الطب.
ولعله يظهر من هذه التعريفات السابقة لزوم التداخل بين علمي الفقه والطب، فإن موضوع
(3)
علم الطب هو بدن الإنسان ونفسه، وهذا البدن وتلك النفس مَحَلٌّ للتكاليف الشرعية وأحكامُ الأخيرةِ هي موضوعُ علم الفقه. لذلك، ولكون الفقه والطب معنيين بصلاح وعافية ذلك الكائن البشري - كما أشارت إليه عبارة العز بن عبد السلام -، حصل بينهما من التداخل ما يعرفه المشتغلون بأيهما.
وأنا أضرب بعض الأمثلة لذلك التداخل وحاجة كل منهما للآخر:
(1)
ترجم إلى عدة لغات كاللاتينية (تحت اسم COLLEGET)، الإسبانية والعبرية، وظل يدرس في أوروبا القرون الوسطى زمنًا طويلا إلى نهايات القرن السادس عشر، بجوار «القانون» لابن سينا. طبعه مركز دراسات الوحدة العربية في مجلد واحد سنة 1999.
(2)
«المسؤولية الطبية وأخلاقيات الطبيب» للبار (ص 54 - 55).
(3)
موضوع العلم هو ما يبحث العلم في عوارضه الذاتية.