الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: حكم اعتماد البصمة الوراثية
كدليل على ثبوت الأبوة أو نفيها
البصمة الوراثية لا تكاد تخطئ في تحديد نسبة الولد للوالدين، وإذا وضعت بعض الشروط لهذه الفحوص كما سنبين، فإن نتائجها تكون 100% أو قريبًا من ذلك.
ومن ثم، أرى أنه ينبغي المصير إلى القول بأنها أحد أدلة ثبوت النسب
(1)
، وأنها على أقل تقدير تقاس على القيافة بطريق الأولى، وهذا من وجهين:
الأول: أنها قطعية ونتائجها قريبة لليقين فشابهت دليل الحس، وإن كانت من نوع المعرفة الخاصة ببعض الناس دون بعض. وإنها إن لم تكن يقينية، فهي من الظن الغالب المقارب جدًّا لليقين، بخلاف القيافة التي تعتمد على الفراسة وبعض العلم والخبرة مما يجعلها من الظن الغالب، ولكنه لا يمكن أن يُزْعَم أنه أقرب لليقين منه إلى الشك
(2)
.
الثاني: أنها تعتمد على شبه خفي وهو مقدم على الشبه الظاهر، وبتقديمه قال بعض الفقهاء، ففي «تُحْفَة المُحْتاج»:«ولو ألحق قائف بشبه ظاهر وقائف بشبه خفي قدم؛ لأن معه زيادة حذق وبصيرة»
(3)
.
أما قول بعض المشاركين في بعض حلقات مناقشة مجلس المجمع الفقهي للرابطة: «لو حصل نقطة صغيرة ولو غبار في المعمل أتى على هذا الدم لخبط النتيجة كلها»
(4)
.
(1)
انظر الكلام في صدر الباب عن حجية الدليل المادي.
(2)
اليقين طرفان: ثبوت ونفي، وبينهما واسطة، وهي الشك، وفوقها الظن (الغالب) ودونها الوهم.
(3)
«تُحْفَة المُحْتاج في شرح المِنهاج» للهَيتَمِيّ (10/ 350).
(4)
حلقة مناقشة لمجلس المجمع الفقهي التابع للرابطة في دورته الخامسة عشرة.
فالجواب عليه من جهتين:
أن التجربة تعاد أكثر من مرة كما أنه يمكن اشتراط تعدد المعامل، ولقد أظهرت الدراسات - كما تقدم - أنه مع التدقيق فإن النتيجة في النفي وإثبات الأبوة 100% ودون ذلك بقليل في الأنواع الأخرى من الإثبات.
أما من جهة الشرع، فإن تخلف الدليل عن دلالته على وجه الندرة لا يخرجه عن كونه دليلًا، وفي ذلك يقول الإمام ابن القَيِّم رحمه الله:«وجواز التخلف عن الدليل والعلامة الظاهرة في النادر لا يخرجه عن أن يكون دليلا عند عدم معارضة ما يقاومه؛ ألا ترى أن الفراش دليل على النسب والولادة وأنه ابنه؟ ويجوز - بل يقع كثيرا - تخلف دلالته؛ وتخليق الولد من غير ماء صاحب الفراش، ولا يبطل ذلك كون الفراش دليلًا؛ وكذلك أمارات الخرص والقسمة والتقويم وغيرها قد تتخلف عنها أحكامها ومدلولاتها، ولا يمنع ذلك اعتبارها؛ وكذلك شهادة الشاهدين وغيرهما»
(1)
.
وإن فقهاء المسلمين - حفظهم الله - لم يردوا العمل بالبصمة الوراثية، بل أقروا بأن لها مكانًا في التحقيق الجنائي والقضاء، وعلى الأخص في مسألة التنازع في النسب.
ولقد جاء قرار مجلس المجمع الفقهي التابع للرابطة شاهدًا على ذلك، ونصه:
«البصمة الوراثية هي البُنية الجينية (نسبة إلى الجينات، أي المورثات)، التي تدل على هُوِيَّة كل إنسان بعينه. وأفادت البحوث والدراسات العلمية أنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة، لتسهيل مهمة الطب الشرعي ويمكن أخذها من أي خلية (بشرية) من الدم، أو اللعاب، أو المني، أو البول، أو غيره وبعد الاطلاع على ما اشتمل عليه تقرير اللجنة التي كلفها المجمع في الدورة الخامسة عشرة بإعداده من خلال إجراء دراسة ميدانية مستفيضة للبصمة الوراثية، والاطلاع على البحوث التي قدمت في
(1)
«الطُّرُق الحُكمِيَّة» لابن القَيِّم (1/ 333).
الموضوع من الفقهاء، والأطباء، والخبراء، والاستماع إلى المناقشات التي دارت حوله، تبين من ذلك كله أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين، أو نفيهم عنهما، وفي إسناد العينة (من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها، فهي أقوى بكثير من القيافة العادية (التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل والفرع)، وأن الخطأ في البصمة الوراثية ليس واردًا من حيث هي، وإنما الخطأ في الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك، وبناء على ما سبق قرر ما يأتي: القرار.
أولًا: لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص؛ لخبر (ادرؤوا الحدود بالشبهات)، وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
ثانيًا: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية
ثالثًا: لا يجوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
رابعًا: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونًا لأنسابهم.
خامسًا: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
أ- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
ب- حالات الاشتباه في المواليد في المشافي، ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين
سادسًا: لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس، أو لشعب، أو لفرد، لأي غرض، كما لا تجوز هبتها لأي جهة، لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد
سابعًا: يوصي المجمع بما يأتي:
أ- أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء؛ وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص، لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى.
ب- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون، والأطباء، والإداريون، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية، واعتماد نتائجها.
ج- أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية، حتى تكون النتائج مطابقة للواقع، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات، وأن يكون عدد المورثات (الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضروريًّا دفعًا للشك والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد»
(1)
.
(1)
رقم القرار: 7 رقم الدورة: 16 مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من 21 - 26/ 10/1422 هـ.