الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مداواة المريض بالحالة النباتية المستمرة
لعل هذه الحالة هي من أفضل الشواهد على جريان الأحكام الخمسة على التداوي كما سبق من كلام الإمام ابن تَيمِيَّة رحمه الله في المبحث السابق. وذلك لأن هذا المريض حي باتفاق، ولا يقول أحد من الأطباء أو الفقهاء بموته، ولكن أية حياة تلك؟ إنها حياة لا وعي فيها ولا إدراك ولا قدرة. لقد نقل المُناوِيّ في التعاريف عن ابن الكمال قوله:«الحياة صفة توجب للمتصف بها العلم والقدرة»
(1)
.
لكن هل يمكن الحكم على هذا المريض بالموت، وهو يتنفس عفويًا، وينبض قلبه من غير منفسة، بل ويصحو وينام وإن كان في صحوة فاقدًا للوعي والقدرة؟
الحق أنه لا يمكن التجاسر على هذا القول أبدًا. ولكن إلى أي مدى نذهب في مداواة من كانت تلك حاله؟
هنا يصلح القول بأن المداواة في حق هذا المريض تبقى على أصل الإباحة لشدة ضعف الأمل في الشفاء، مع ما في مداواته من إطالة لمعاناته المحتملة
(2)
ومعاناة أهله. ثم إن الكراهة قد تكون هي الأقرب إذا ما طالت تلك المعاناة واشتد ضعف الأمل في الشفاء، وإن جزئيًا، وتكلف أهله أو المجتمع ومؤسساته ما لا يطيقون من أجل توفير الرعاية له.
إن هذه الحالات في أمريكا كما سبق تكلف مليارات الدولارات للعناية بها، فهل تقدر أنظمة الصحة في البلاد الإسلامية على تحمل تلك الأعباء؟ الحق أنها لا تقدر وما من سبيل لفعل ذلك إلا بالتقصير في حق من هم أشد حاجة ممن يرجى شفاؤهم.
(1)
«التَّعَارِيف» للمُناوِيّ (1/ 301).
(2)
لا يستطيع أحد الجزم إن كانوا يشعرون بشيء من المعاناة أولا.
ولعل ما سبق لا يختلف فيه الكثير من أهل العلم. ولكن تبقى مسألة محيرة، وهي تحديد ما يعتبر مداواة والتفريق بينه وبين الطعام والشراب، فإنه لا يجوز منع الطعام والشراب عن الحي حتى يموت. ولكنَّ هذا المريض يحتاج إطعامه إلى عناية طبية محترفة، بل ومتميزة، تتضمن غرس أُنْبُوب من خارج الجسم إلى داخل المَعِدَة ينقل عبرها غذاء خاص إلى هذا المريض.
فهل يدخل هذا في الإطعام أم المداواة؟ وهل هناك فرق بين ما قبل غرس الأُنْبُوب وما بعده، فيقال إنه لو كان الأُنْبُوب موجودًا وجب الإطعام؟
لقد ورد إلى مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا سؤالٌ حول هذا الأمر ننقله مع الإجابة فإنه بصدد عين القضية التي نناقشها.
«فضيلة الشيخ صلاح الصَّاوِيّ
(1)
حفظه الله، أصحاب الفضيلة أعضاء مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حفظهم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقد وردت إلينا بعض الأسئلة حول موضوع تتداوله وسائل الإعلام الأمريكية هذه الأيام يدور حول حق الحياة والموت. والموضوع هو قضية تيري تشايفو (41 عاما) التي توفيت يوم الخميس بعد 13 يوما من فصل أُنْبُوب التغذية الخاص الذي كان يبقيها على قيد الحياة.
(1)
هو: صلاح الصَّاوِيّ، شيخنا، الفقيه المحقق، المفكر الإصلاحي، الداعية الرباني، أمين عام مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، ولد بمحافظة أسيوط وبها نشأ، وتخرج من كلية الشريعة والقانون بالأزهر ومنها حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه. من أهم مصنفاته:«الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي» ، و «ما لا يسع المسلم جهله» ، و «التطرف الدينى الرأى الآخر» ، و «التعددية السياسية فى الدولة الإسلامية» ، و «جماعه المسلمين ومفهومها» ، و «مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي» .
وملخص القضية أن قلب تيري تشايفو توقف عن النبض لوهلة سنة 1990 مما أدى لتلفٍ في [قشرة] مخها وأفقدها القدرة على التحكم والكلام والحركة. وأصبحت طريحة فراش المستشفى تعيش في غيبوبة شبه تامة، فحياتها أشبه ما تكون بالحياة النباتية المستمرة فهي تعيش على أُنْبُوب تغذية يمدها بالمحاليل الغذائية. وادعى زوجها مايكل، وهو الوصي عليها، إن زوجته لا ترغب أن تعيش بأسباب اصطناعية خاصة وإن حالتها ميئوس من شفائها. واستطاع الحصول على أمر قضائي بنزع الأُنْبُوب لتركها تموت. ويقول الأطباء المعينون من المحكمة إن حالة تشايفو مزمنة وميئوس من شفائها
…
وبأمر قضائي فُصل الأُنْبُوب يوم الجمعة 18 مارس 2005. ورفضت المحاكم جميع محاولات الاستئناف التي قامت بها العائلة بإعادة وصل الأُنْبُوب بينما يستأنف والداها صراعهما القانوني لإنقاذ ابنتهما ....
والسؤال هو: هل يجوز فصل أُنْبُوب التغذية في هذه الحالة من مريضة تعيش بطريقة اصطناعية في المستشفى لمدة خمسة عشر عامًا وميئوس من تحسن حالتها؟ مع العلم أن هذه الحالة ليست مطابقة لما جاءت به فتاوى المجامع الفقهية السابقة بشأن الموت التام للدماغ ووجود أجهزة اصطناعية لتشغيل القلب والرئتين وتغذية الدم. فإن قلب تيري ورئتيها يعملان بصورة طبيعية. وعندما فصلت عنها الأجهزة ماتت نظرًا لفقدان السوائل من العطش. فحالتها كانت أشيه ما تكون بأنها تعيش حياة نباتية مستمرة
…
نرجو من فضيلتكم توضيح الأمر والسلام. [انتهى السؤال].
[الجواب:] بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فإن الحياة هبة إلهية، ووديعة عند صاحبها يسأل عنها يوم القيامة، والمحافظة عليها مقصود كلي من مقاصد الشريعة، والاعتداء عليها من أكبر الكبائر، ولهذا حرمت الشريعة القتل سواء أكان قتلا للغير أم قتلا للنفس، وشرعت التداوي والتماس أسباب
الشفاء، وأوجبته في بعض الحالات.
وتثير قضية هذه السيدة جملة من القضايا تتمثل فيما يلي: حكم التداوي، وإذن المريض أو أوليائه، وحقيقة الموت شرعا، وقتل المرحمة ...... وبناء على ما سبق فإن المتأمل في حالة تيري يرى أنها لم تكن في حالة موت بالمعنى الطبي أو الشرعي، وإنما كانت تعيش حياة تشبه الحياة النباتية المستمرة، ولصاحب هذه الحالة ومثلها من الحالات المزمنة الميئوس من شفائها واستعادتها للعافية الحق في الحياة حتى يسلم روحه إلى بارئها، وعلى هذا فإن ما كان يقدم لها من رعاية صحية ينقسم إلى نوعين:
ما كان من جنس الغذاء وما يتضمنه من أسباب الحياة الطبيعية والضرورية التي يستوي في طلبها المرضى والأصحاء كتوفير الماء والطعام والهواء ونحوه، فهو حق مكفول للمريض لا ينازعه فيه أحد، سواء أكان ذلك بالوسائل العادية عند القدرة على ذلك أو بالبدائل الطبية في حالة العجز، (وإن كان ثمة جدل فقهي حول اعتبار البدائل الطبية للطعام والشراب من جنس الغذاء أم من جنس الدواء فإن ذلك لا وجه لإثارته في هذه الحالة فقد كانت هذه البدائل موجودة سلفا ثم حرمت منها المريضة بإصرار من وصيها) وما كان من هذا القبيل لا يملك أحد حق التنازل عنه، لا من قبل المريض نفسه ولا من قبل أحد من أوليائه، فإن امتنع عن ذلك المريض فهو ظالم لنفسه، وإن أوصى به فقد تجانف في وصيته لإثم، فوصيته رد، وإن فعل به ذلك أحد من أوليائه فهو ظالم لغيره، والقضاء بالمرصاد لهذا الموقف الظالم المتعسف لما سبق من أن تصرف الأولياء مقيد بالنظر الشرعي وبالمصلحة الشرعية، وما تقتضيه مصلحة المولى عليه ودفع الأذى عنه.
أما ما كان من جنس الدواء، فلا شك أن التداوي مشروع في الجملة، ويرتقي - كما سبق - إلى مستوى الواجبات، إذا كان تركه يفضي إلى تلف النفس تلفا كليا أو جزئيا ما دام يغلب على الظن أنه سبيل إلى إنقاذ النفس من التلف واستعادتها للعافية، أما إذا كان
لا يرجى من ورائه استعادة العافية، ولا العودة إلى حياة طبيعية أو شبه طبيعية، بل كان لمجرد الإبقاء على حياة نباتية هي أشبه ما تكون بالموت، فلا وعي ولا حس ولا حركة، ولا أمل في استعادة العافية فإن الدواء في هذه الحالة لا يكون واجبا وإنما يكون مشروعا فقط، وللمريض أو لوصيه الحق في تناوله أو الامتناع عنه والاكتفاء ببذل أسباب الحياة الطبيعية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فإن تنازع الأولياء في ذلك كان مرد الأمر إلى القضاء الذي يقرر ما يراه مناسبا في مثل هذه الحالة في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعلى هذا فإن ما كان يقدم لها من رعاية طبية ينقسم على قسمين:
ما يعد من قبيل الرعاية الطبية الضرورية للحياة والأحياء في الأحوال العادية، كالتقليب والعلاج الطبيعي لمنع تيبس وتقلص العضلات واستخراج الفضلات وعلاج الأمراض الطارئة التي يغلب على الظن شفاؤها ويؤدي بقاؤها إلى تلف النفس أو بعض الأعضاء، فإنه يلزم البقاء عليه والمحافظة على حقها في الإفادة منه.
أما ما كان وراء ذلك من أجهزة دعم الحياة الخاصة، كالصدمات الكهربائية التي يتعرض لها القلب لحثه على النبض ونحوه، فهذا الذي لا يلزم البقاء عليه في مثل هذه الحالة ولا سيما مع تطاول الأمد وتضاؤل الأمل في استعادة العافية، ويكون مرد الأمر في ذلك على المريض أو وصيه، ويحتكم إلى القضاء عند التنازع. والله تعالى أعلى واعلم» انتهى كلام الدكتور صلاح الصَّاوِيّ. .
والواضح من جواب شيخنا الدكتور صلاح الصَّاوِيّ أنه ينظر إلى تغذية هؤلاء المرضى على أنها نوع من الإطعام، وأنه يرى منع الطعام عن المريض عملا غير جائز، بل ويرى أن يداوى المريض من الأمراض الطارئة مع العناية التمريضية به بالتقليب والعلاج الطبيعي واستخراج الفضلات إن لزم.
ولعله من الواضح أيضًا أنه يفرق بين ما قبل غرس الأُنْبُوب في المَعِدَة وهو عمل جراحي وما بعده، وإن كان الأُنْبُوب يحتاج إلى تعهد من قبل هيئة التمريض.
ولقد استطلعت بعض آراء الفقهاء
(1)
، فوجدت انقسامًا في الرأي حول اعتبار إيقاف هذا النوع من التغذية عن طريق المَعِدَة حبسًا للطعام عن المريض. فالبعض يرى أنه كذلك، وآخرون يرون هذا التدخل الطبي نوعًا من المداواة سواء كان ذلك قبل أو بعد غرس أُنْبُوب المَعِدَة.
• والذي يظهر لي أنه من المداواة، وأنه لا يجب، بل وربما لا يستحب أحيانًا، فإن فيه إطالة لمعاناة المريض من غير طائل البتة. ولقد زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدُّوه بغير إذنه، قالت عائشة رضي الله عنها:«لددناه في مرضه فجعل يشير إِلينا أَن لا تَلُدُّونِي فقلنا كراهية المَرِيضِ للدواءِ فلما أَفاق قال أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قلنا كراهِيَة المَرِيضِ للدواءِ فقال لا يَبْقَى أَحَدٌ في الْبَيْتِ إلا لُدَّ وأنا أَنظُر إلا الْعَبَّاسَ فإنه لم يَشهَدكُم»
(2)
. وهذا شبيه اللدود. .
ثم إن هذه المحاليل المغذية تصنع في المعامل وتحتاج إلى خبرات خاصة لتصنيعها، وليس ذلك كالطعام. ودفعها عن طريق أُنْبُوب المَعِدَة يحتاج إلى غرس الأُنْبُوب ثم العناية بها، وليس ذلك كالإطعام.
* * *
(1)
كان ممن اعتبره إطعامًا الدكتور علي السالوس، عضو المجامع الفقهية، وممن اعتبره مداواة الدكتور الطبيب العالم الداعية ياسر برهامي.
(2)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته (4/ 1618).