الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: التوفيق بين أقوال الفقهاء ورأي الطب الحديث وأثر تطور الصناعة الطبية على الفتوى في هذا الباب
لابد أولًا عند التوفيق ألا نرد صريح نص من القرآن أو السنة الصحيحة أو إجماعًا منعقدًا، كذلك فإن أهل السنة كما بينا في تغير الفتوى لا يردون دليل الحس.
أما النص الصريح فليس ثم، واستنباط علي رضي الله عنه أو ابن عباس رضي الله عنه من الآيتين أن أدنى الحمل ستة أشهر إنما هو من إشارة النص، لا صريحه، وإلا لما خفي الاستنباط على أكثر الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.
وإن التحديد بستة الأشهر من الآيتين استنباط حسن لطيف، ولكن ليس فيهما ما يقطع أن المولود لدونها لا يعيش، ولذلك لم يلتزم بعضهم بستة الأشهر من غير نقصان ولا زيادة، بل إن سفيان الثَّورِيّ تسامح في اليوم واليومين دون ستة الأشهر
(1)
.
أما الإجماع، فنقله غير واحد من العلماء ولا نعلم لهم مخالفًا، ولكنْ على ماذا أجمعوا؟
لا يظهر انعقاد إجماع الصحابة على أن الولد لا يولد حيًا دون ستة الأشهر بل أنه يولد حيًا لستة أشهر. أما إجماع من بعدهم على أنه لا يولد حيًا لدونها، فمثل هذا الإجماع الإقراري أو الاستقرائي لا يصلح كدليل قطعي بل هو حجة ظنية غيرها قد يكون أقوى منها
(2)
.
ولكن هل أجمعوا على أنه لا يولد حيًا لدون ستة الأشهر؟ إنهم قد أجمعوا على أن
(1)
انظر «الاسْتِذْكَار» لابن عبد البَرّ (7/ 173).
(2)
انظر: «مَجْمُوع الفَتَاوَى» لابن تَيمِيَّة (19/ 267).
الولد إذا ولد لستة أشهر من النكاح نسب لأبيه، وليس له أن ينفيه، والظاهر أنهم يتفقون على أنه لو ولد لدون ذلك، واستمرت به حياة، لا ينسب له. إنهم يقولون إن المولود لدون ستة الأشهر لا تكون له حياة مستقرة، لأن سبب الموت قد تعلق به وهو نقص الخِلْقَة.
(1)
.
لاحظ أنه لا ينكر أنه يولد حيًا لدون ستة الأشهر، ولكنه لا يرى أن له حياة مستقرة.
قال البُهُوتِيّ
(2)
رحمه الله: «(وتصح) الوصية (للحمل) لأنه يرث وهي في معنى الإرث من جهة الانتقال عن الميت مجانا (إن كان موجودا حال الوصية) لأنها تمليك فلا تصح لمعدوم (بأن تضعه حيا لأقل من ستة أشهر من حين الوصية فراشا كانت لزوج أو سيد، أو بائنا) لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر كما يأتي، فإذا وضعته لأقل منها وعاش لزم أن
(1)
«تُحْفَة المُحْتاج» للهَيتَمِيّ (6/ 423).
(2)
هو: منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البُهُوتِيّ الحنبلي، شيخ الحنابلة بمصر في عصره، ومن محققي المتأخرين الكبار، نسبته إلى بُهُوت في غَرْبِيَّة مصر، ولد سنة 1000 هـ، وتوفي سنة 1051 هـ، له كتب هي من أهم ما يعول عليه المتأخرون في المذهب، منها:«الروض المربع شرح زاد المستقنع المختصر من المُقْنِع» ، و «كشَّاف القِنَاع عن متن الإقناع للحجاوي» ، و «دقائق أولي النهى لشرح المنتهى» ، و «إرشاد أولي النهى لدقائق المنتهى» ، و «عمدة الطالب». راجع ترجمته في:«الأعلام» للزرِكليّ (7/ 307)، «مُعْجَم المؤلفين» (13/ 22).
يكون موجودًا حينها»
(1)
.
لاحظ قوله: «وعاش» .
وقد يعكر على ما ذهبت إليه قول الإمام ابن القَيِّم رحمه الله: «فاتفق الفقهاء كلهم على أن المرأة لا تلد لدون ستة أشهر إلا أن يكون سقطًا»
(2)
. ولكن غيره يخالفه في ذلك، وليست عبارات العلماء كقواطع نصوص الوحي مهما علا في العلم كعبهم.
إنه من الواضح من كلامهم، رحمهم الله، أنهم يعون إمكانية ولادة الجنين حيًا لدون الأشهر الستة، ولكنه لا تستقر حياته عندها، وإن هذا هو عين الصواب، فإن الجنين إذا ولد لدون السبعة والثلاثين أسبوعًا سمي خداجًا أو خديجًا، أي ناقص النمو، وتزداد المخاطر إذا كان دون الأربعة والثلاثين، وتشتد جدًا إذا ما كان دون السبعة والعشرين إلى الثمانية والعشرين (وهي ستة الأشهر من الإخصاب)، فإنه عندها لا يعيش إذا ترك من غير تدخل طبي على قدر عالٍ جدًا من الكفاءة
(3)
.
إذًا فستة الأشهر هي أدنى فترة للحمل يعيش معها الجنين من غير تدخل طبي.
فإذا ما جاءت المرأة في زماننا بوليد لستة أشهر أو فوقها من النكاح، فإن نسبه يثبت لصاحب الفراش من غير مراجعة للطبيب، وإذا ما أتت به لدون ذلك وعاش بعد
(1)
«كشَّاف القِنَاع» للبُهُوتِيِّ (4/ 356). وما بين الأقواس من كلام صاحب الإقناع، الإمام الحجاوي.
(2)
«تُحْفَة المَوْدُود» لابن القَيِّم (ص 265).
(3)
Perinatal Care at the Threshold of Viability [Journal] /auth.Hugh MacDonald MD، and the Committee on Fetus and Newborn//PEDIATRICS. - USA: AAP.Nov. 2002. - 5: Vol. 110.
Trends in neonatal morbidity and mortality for very low birthweight infants [Journal] /auth.Fanaroff AA Stoll BJ،
…
التدخل الطبي، روجع الأطباء لمعرفة حال الوليد، وما إذا كان عمره عند ولادته دون ستة الأشهر من زمن الإخصاب.
قال الإمام ابن حَزْم رحمه الله: «فإن تيقن بضُؤولة خلقته أنه لستة أشهر أو سبعة أشهر أو ثمانية وكانت هذه المدة قد استوفتها عند الثاني وتيقن بذلك أنه ليس للأول فهو للثاني بلا شك»
(1)
.
ثم إن هذا يؤدي إلى أن النكاح لا ينفسخ إذا تزوجها بكرًا، وولدت لدون ستة الأشهر وشهد الأطباء لها، ويُدرَأ عنها الحد - عند القائل به - ويثبت النسب لصاحب الفراش، ولا ينتفي منه إلا باللعان ويرث منه
…
إلخ.
* * *
(1)
«المُحَلَّى» لابن حَزْم (10/ 316).
المبحث الثاني: أكثر الحمل
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: آراء السادة الفقهاء في أقصى مدة الحمل
المطلب الثاني: رأي الطب في أكثر مدة الحمل
المطلب الثالث: التوفيق بين آراء الفقهاء والمعارف الطبية الحديثة وأثر تطورها على الفتوى