الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
 الفرع الرابع: أدلة القائلين بعدم اعتبار القرائن:
1 -
أن الحكم لله وأن طرائقه منه، فهي أيضًا تستمد من الشرع وقد قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57].
2 -
(1)
.
والشاهد من الحديث أنه لم يرض بغير البينة وهي ما جاء في قوله تعالى:
وقد يجاب بأن الرجل لم يقم الدليل القاطع على صدق ما يقول فلزمه الحد. وقد يجاب بأن هذا في حد الزنا دون غيره لتشوف الشارع للستر. ويمكن أن يجاب بأن هذا في الحدود كافة دون غيرها لأنها تدرأ بالشبهات، ويستوثق في إقامتها بما لا يكون في غيرها كقضايا الأموال التي قضي فيها بأهون من ذلك بكثير.
3 -
(2)
.
(1)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة (2/ 949).
(2)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الأيمان، باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب (6/ 2458).
ويجاب بأنه لا دليل له، وقوله ليس أولى من قول ابن عمه ولم يأت لا بشهود ولا بأي دليل على دعواه، وهذا غير الحكم بالقرائن التي يكون بعضها قاطعًا.
4 -
عن الْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ قال: «ذكر ابن عَبَّاسٍ المُتَلاعِنَينِ فقال عبد اللهِ بن شَدَّادٍ هِيَ التي قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: لو كنت رَاجِمًا امْرَأَةً عن غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ قال [أي ابن عباس] لا تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ»
(1)
.
والشاهد أنه لا يرجم من غير بينة، وإن كانت هناك قرينة على الزنا. ويجاب عليه بالأجوبة على حديث هلال، وبأن القرينة كانت ضعيفة، فقد جاء بيانها فيما رواه ابن ماجه عن ابن عَبَّاسٍ قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لو كنت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ فُلَانَةَ فَقَدْ ظَهَرَ منها الرِّيبَةُ في مَنْطِقِهَا وَهَيْئَتِهَا وَمَنْ يَدْخُلُ عليها»
(2)
والهيئة والمنطق ودخول الأجانب على المرأة قرينة ضعيفة بلا شك على الزنا.
5 -
(3)
.
والشاهد عدم قضائه صلى الله عليه وسلم بحده رَغم قرينة السكر، وقد يجاب بأن قرينة الرائحة والتقيؤ مع وجود السكر أقوى من السكر وحده. والجواب الأقوى هو ما أجاب به الحافظ رحمه الله في الفتح حيث قال: «وأخرج الطَّبَرِيّ من وجه آخر عن ابن عباس ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرًا ولقد غزا تبوك فغشى حجرته من الليل سكران
(1)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب المحاربين، باب من أظهر الفاحشة واللطْخ والتُّهَمَة من غير بينة (6/ 2513).
(2)
«سُنَن ابن مَاجَه» كتاب الحدود، باب من أظهر الفاحشة (2/ 855).
(3)
«سُنَن أبي دَاوُد» كتاب الحدود، باب الحد في الخمر (4/ 162). وقد سكت عنه أبو داود.
فقال ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى رحله. والجواب أن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحد لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السكران فصيره حدًّا واستمر عليه وكذا استمر من بعده وإن اختلفوا في العدد. وجمع القُرْطُبِيّ بين الأخبار بأنه لم يكن أولا في شرب الخمر حد وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس. ثم شرع فيه التعزير على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها ثم شرع الحد»
(1)
.
6 -
روي أنه أُتي برجل وُجِد في خَرِبة بيده سِكِّين ملطخةٌ بدم، وبين يديه قتيل يتشحَّط في دمه، فسأله علي رضي الله عنه فقال:«أنا قتلته» ، قال علي:«اذهبوا به فاقتلوه» ، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعًا، فقال:«يا قوم لا تعجلوا ردّوه إلى علي» ، فردوه، فقال الرجل:«يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته» فقال علي للأول: «ما حملك على أن قلت: أنا قتلته ولم تقتله؟» قال: «يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العَسَس على الرجل يتشحَّط في دمه وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خَربة، فخفت ألا يُقبَل مني وأن يكون قَسَامة فاعترفت بما لم أصنع واحتسبت نفسي عند الله» ، فقال علي:«بئسما صنعت فكيف كان حديثك؟» قال: «إني رجل قصَّاب وخرجت إلى حانوتي في الغَلَس فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا وأخذوني فقال الناس: «هذا قتل هذا ما له قاتل سواه» ، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه»، فقال علي للمقر الثاني:«فأنت كيف قصتك؟» فقال: «أغواني
(1)
«فَتْح البَارِي» لابن حَجَر (12/ 72).
الشيطان فقتلت الرجل طمعًا في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصَفَ فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس فأخذوه وأتَوك به، فلما أمرتَ بقتله علمتُ أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق». فقال للحسين رضي الله عنه:«ما الحكم في هذا؟» قال: «يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفسًا فقد أحيا نفسًا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] فخلّى عليّ عنهما، وأخرج دِيَة القتيل من بيت المال»
(1)
والشاهد أن هذه القصة فيها طعن فيما يعده الفقهاء القائلون بالحكم بالقرائن من القرائن القطعية، فإن الرجل قد قبض عليه، وفي يده آلة الجريمة، وهو خارج من الخربة التي فيها القتيل. ولكن في القصة إشكالا، قال ابن القَيِّم «وهذا إن كان صلحا وقع برضا الأولياء فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقوال الفقهاء أن القِصاص لا يسقط بذلك؛ لأن الجاني قد اعترف بما يوجبه ولم يوجد ما يسقطه فيتعين استيفاؤه، وبعد فلحكم أمير المؤمنين وجه قوي» (1).
والرد على هذه القصة -إن صحت- أنها من النادر الذي لا حكم له ولو تتبع لتعطلت مصالح العباد، ثم إن القصة لا تبين خطأ القرينة فحسب، بل خطأ الإقرار أيضًا؛ فهل نطعن في حجية الإقرار؟ وقد يكذب الشاهدان، فهل يطعن ذلك على العمل بالشاهدين؟ ولكن يستفاد من القصة ضرورة التحري والتدقيق لأن إشاطة الدماء من غير ذلك مما لا يليق بالمؤمنين.
7 -
وعن علقمة بن وائل عن أبيه: «أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه من نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم
(1)
«الطُّرُق الحُكمِيَّة» لابن القَيِّم (1/ 83).
مرّ ذوو عَدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني فقالت: كذب، هو الذي وقع عليَّ .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا به فارجموه فقام رجل فقال: لا ترجموه فارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل واعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة. فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد غفر لك، وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر رضي الله عنه: ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا، لأنه قد تاب».
وفي رواية فقالوا: «يا رسول الله ارجمه، فقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم» .
وعند التِّرْمِذِيّ أمر برجمه، فقال:«ارجموه لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم»
(1)
.
ولكن في الرواية اضطرابًا وهو ورود روايتين أحدهما أنه أمر برجمه والأخرى أنه لم يأمر، ولذا قال ابن القَيِّم:«وهذا الحديث إسناده على شرط مسلم، ولعله تركه لهذا الاضطراب في متنه»
وإن سلم الحديث، فليس احتجاج المانع من اعتبار القرائن به بأولى من احتجاج القائل بها، قال ابن القَيِّم رحمه الله:«فيقال: -والله أعلم- إن هذا مثال إقامة الحد باللوث الظاهر القوي، فإنه أدرك وهو يشتد هاربًا بين أيدي القوم، واعترف بأنه كان عند المرأة، وادعى أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: «هو هذا» وهذا لوث ظاهر، وقد أقام
(1)
«الطُّرُق الحُكمِيَّة» لابن القَيِّم (1/ 84).
الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه وهو الحمل والرائحة
…
ولما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه، كما لو شهد أربعة بزنا المرأة لم يحكم برجمها إذا ظهر أنها عذراء أو ظهر كذبهم»
(1)
.
فابن القَيِّم هنا يقول إنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم الرجل الذي وجد عند المرأة وليس هناك ما يدعوه إلى إصدار هذا الحكم بالرجم إلا القرائن الظاهرة.
وابن العَرَبِيّ يجعل الأمر بالرجم لاستخراج الحق ولا يجوزه لغير الرسول صلى الله عليه وسلم
(2)
. وجوابه رحمه الله لا يخلو من نظر، ففيه تحكم، والتخصيص لا يظهر، ودعواه مفتقرة إلى الدليل، والأصل في فعله التأسي. ولكن اضطراب الرواية يجعل الحديث مما لا ينبغي أن يستدل به أي من الفريقين.
8 -
قد توجد المسروقات لدى بريء كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 69]
وهذا صحيح ولكن القاضي لا يأخذ القرائن بمعزل عن غيرها من السياق والسباق والأحوال والشواهد والملابسات، ولكنْ يُعمل ذِهنَه في طلب الحقيقة، آخذًا في اعتباره كل ما لديه من أدوات الوصول إليها، ومنها القرائن.
وأساليب التحقيق الجنائي الحديثة قد حققت من التقدم ما لا ينبغي التغافل عنه. وإن هذا الوزير نافذ الأمر قد يأمر عشرة من غير أقاربه وأعوانه لا اثنين أن يشهدوا له على خصمه إن شاء.
(1)
«الطُّرُق الحُكمِيَّة» لابن القَيِّم (1/ 84).
(2)
«عارضة الأحوذي بشرح سُنَن التِّرْمِذِيّ» لابن العَرَبِيّ، دار الكتب العلمية ببيروت (6/ 237).
9 -
أنه لا يؤمن على الناس من حيف الظلمة من القضاة والحكام إن أطلقنا ولم نحصر أدلة الإثبات.
ويجاب على ذلك أن هؤلاء الظلمة لن تُعْوزهم الحيلة على الظلم، وإن استشهاد اثنين أو ثلاثة من غير المعروفين بالتُّهْمة مما يقدرون عليه. كذلك، فإن القاضي ليس حكمه نهائيًا، بل يُرفع الأمر إلى من هو أرفع منه إن كان ثمَّةَ حيفٌ ظاهر، ويُنقض حكمه إن خالف صريح النصوص أو الإجماع أو صحيح النظر.