الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
ثانيًا: أدلة القائلين بأن موت الدِّمَاغ ليس موتًا للإنسان ولا يأخذ حكمه:
1 -
اليقين لا يزول بالشك والأصل بقاء ما كان على ما كان واستصحاب حال الحياة. واليقين أن هذا الإنسان كان بالأمس صاحب حياة مستمرة أو مستقرة فيبقى ما كان على ما كان حتى يثبت باليقين موته وهو ممتنع مع خفقانِ قلبِه.
وقد يجاب على ذلك بأن الأحكام تنبني على غلبة الظن، ولاسيما إن كانت مقاربةً لليقين؛ واليقين في كل أمر عزيز، ألا ترى أن القاضي يحكم بالقِصاص إذا شهد عدلان على الجاني، وقد يكذبان.
وجواب هذا الجواب أنه إنما جرت هذه الأحكام على غلبة الظن لضرورة إقامة العدل بين الناس وحفظ الحقوق، أما التسرع في إثبات حكم الموت لمن ينبض قلبه وتجري الدماء في عروقه فليس ضرورة. وإنقاذ آخرَ بقلبِه ليس أمرًا يقينيًّا، بل إن من العلماءِ من لا يبيح نقل الأعضاء أصلًا
(1)
.
2 -
العبرة بالحياة الجسدية لا الإدراكية العقلية، فالمعتوه يرث ويورث، وصاحب الحياة النباتية المستمرة يتفق أهل الفقه والطب بل وسائر أهل الملل على حياته.
والجواب أن الحياة الجسدية المتناسقة يلزم لها حياة الدِّمَاغ أو جذعة لتدبير أمور الجسد من تنفس ونبض للقلب وغير ذلك، أما حياة الأعضاء فليست حياةً للجسد وقد تبقى العضلات حيةً لساعات تستجيب للإثارة بعد الموت الذي يتفق عليه الجميع.
(1)
من هؤلاء المشايخ: محمد متولي الشَّعراوي، وعبد الله بن الصِّدِّيق الغُماري، ومحمد برهان الدين السنبهلي، وعبد السلام السكري، وحسن علي الشاذلي. انظر «أحكام الجراحة الطبية» للشِّنْقِيطِيّ (ص 354).
وجواب هذا الجواب بالتفريق بين حياة بعض العضلات وخفقان القلب الذي يضخ الدم في العروق والذي تتعلق به الروح، وفي تراثنا ما يشير إلى أهمية القلب. قال الغَزالِيّ رحمه الله:«الروح وهو أيضا يطلق فيما يتعلق بجنس غرضنا لمعنيين: أحدهما جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت، فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به. والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان؛ والروح مثالها السراج. وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه .. »
(1)
.
3 -
اشترط الفقهاء عند الشك في الموت التربُّص يومًا أو اثنين أو ثلاثة
(2)
، وذكروا أيضًا «حتى تغَيُّرِ الرائحة»
(3)
.
والجواب أن ذلك عند الشك، وميتُ الدِّمَاغِ يحكم أهل الاختصاص ببدن الإنسان، القائمون على حفظ حياته وصحته أنه ميتٌ بيقين، وأن عودته للحياة مستحيلة، وأن دماغه يبدأ في التحلل من لحظة موته
(4)
، وإن بقي القلب ينبِض بعمل المُنَفِّسَة.
4 -
رجوع ميت الدِّمَاغ إلى الحياة ليس مستحيلا عقلا فكذا لا يكون مستحيلا شرعًا. والجواب بأنه مستحيل عادةً، وعلى ذلك تعويل الشرع.
5 -
قد يكتشف الطِّب علاجًا لتوقف المخ كما اكتشف علاجًا لتوقف القلب بالصعق وبزرع قلب آخر وغير ذلك.
(1)
«إحْيَاء عُلُوم الدِّين» للغَزالِيّ (3/ 3).
(2)
«الإنْصَاف» للمِرداوِيِّ (2/ 467)، «المُغْنِي» لابن قُدامة (2/ 163).
(3)
«المَجْمُوع» للنَّوَوِيّ (5/ 111).
(4)
انظر «الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي» بحث د. عصام الشربيني (ص 354).
والجواب هو أن الكلام ليس عن توقف المخ بل موته، أما الزرع فمستحيلٌ لصعوبة العملية، فهناك الآلاف من الأعصاب والأوردة التي تحتاج إلى توصيل ببعضها وكل الزمن المتاح قبل موت المخ أربع دقائق
(1)
وقد يجاب بأن نقل المخ إنما هو قتلٌ لشخصٍ لمصلحة آخرَ. وجوابُ هذا أنه متصور إذا كان الأولُ مهدرَ الدم. ولكنَّ الحقيقة التي يعرفها كل طبيب أن زراعة المخ أو عودة الحياة للمخ الميت إنما هو ضرب من المستحيل. هذا وإن قال البعض بأن أحلام اليوم هي حقائق الغد، لكننا نبني أحكام اليوم على حقائق اليوم لا أحلامه.
6 -
الإسلام يربط أحكامه بعلامات ظاهرة، فالموت من الأمور التي يحتاج إلى معرفتها آحاد الناس وأبناء الحضر والبادية والطبيب وغيره. إذًا فلتبق علامات الموت على ما كانت من تلك الأمارات الظاهرة.
والجواب أن سؤال أهل الخبرة أمر محمود شرعًا في معرفة الأمور المتعلقة بالدنيا وقد كانت نساء الصحابة ترسل بالدِّرَجَة فيها الكُرْسُف لعائشة رضي الله عنها لتخبرهن بانتهاء حيضهن
(2)
. والشارع لم يربط الحكم بالموت بأسباب معينة، كما فعل في دخول شهر رمضان، فنقف عندها عند السبب المنصوص.
ويطعن على هذا الاستدلال أيضًا ما قدمنا من أن خفقان القلب ليس من العلامات الظاهرة على الموت في كتب أهل السنة ولم يشِع استعمال هذه العلامة حتى شاع استخدام السماعة الطبية، فرجع الأمر إلى حكم الخبير.
بل إنه لا يكون من قبيل المبالغة القول بوجوب الرجوع إلى الطبيب عند الشك في
(1)
انظر «الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي» بحث د. مختار المهدي (ص 343).
(2)
رواه البخاري معلقًا مجزومًا به: كتاب الحيض، باب إقبال الحيض وإدباره (1/ 121)، رواه مالك في «المُوَطَّأ» كتاب الطهارة، باب طهر الحائض (1/ 59).
حصول الموت. وإن أكثر الدول الإسلامية تشترط وجود شهادة وفاة من الطبيب لإصدار التصريح بالدفن.
7 -
يقر الأطباء بإمكانية حصول الخطأ في تشخيص موت الدِّمَاغ.
وكذلك فإن الكثير من المعايير التي يذكرونها للحكم على موت الدِّمَاغ لا يتيسر العمل بها لجميع الأطباء، ومن ثم فإن اليقين في التشخيص غير متحصل وطالما وجد الشك عدنا إلى الأمر الأول وهو استمرار الحياة.
والجواب أن الخطأ في تشخيص موت الدِّمَاغ عند اتباع المعايير المهنية أقل من خطأ العامة في تشخيص الموت بالعلامات الظاهرة، وكذلك فإن العبرة بتطبيق المعايير، أما من لا يطبقها فالخطأ خطؤه وليس عيبًا في دقة التشخيص عند اتباع معاييره.
ويمكن اشتراط شهادة طبيين عدلين من أهل التخصص، بل يمكن الزيادة على ذلك، وشهادة الطبيين بالفعل جزء من المعايير في أكثر البلاد والمشافي.
8 -
سد الذرائع.
قد يفتح القول بموت من مات دِماغه البابَ لأصحاب النفوس المريضة من بعض الأطباء وتجار الأعضاء لإزهاق أرواح الناس، من أجل الحصول على أعضائهم. وسد هذا الباب فيه ما فيه من حفظ كرامة الإنسان ومنع التلاعب بأرواح البشر. ولكن الذرائع منها ما يغلب على الظن أنه يؤدي للمحظور وما يغلب على الظن أنه لا يؤدي للمحظور ووسط بينهما، فالأول يسد كبيع السلاح للحربي وقت الحرب، والثاني لا يسد كبيعه لمسلم قد يقتل به أخاه في غير وقت الفتنة، والنوع الثالث فيه الخلاف، ومنه ما هو أقرب للنوع الأول ومنه ما هو أقرب للثاني، وإنه عند تطبيق المعايير التي ينبغي أن يفرضها ولي الأمر لتشخيص الموت الدِّمَاغي مع حصر ذلك الأمر في مستشفيات بعينها بها من الإمكانيات ما يؤهلها لدقة التشخيص، وكذلك نقل الأعضاء، بعد هذا كله تكون الذريعة أقرب إلى النوع الثاني منها إلى الأول، والله تعالى أعلم.