الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: التوفيق بين آراء الفقهاء والمعارف الطبية الحديثة
وأثر تطورها على الفتوى في هذا الباب
بين يدي التوفيق بين آراء الفقهاء والطب الحديث، ينبغي التأكيد على أن الإشكال في أقصى مدة الحمل لم يواجه فقهاءنا وحدهم، بل إن القوانين في بلاد كثيرة تختلف في تحديد هذه المدة، فقد أقر القانون الإنجليزي بحمل طال لمدة واحد وأربعين ومائة يوم ((341) يومًا)
(1)
وهذا ما لا يمكن أن يقره الأطباء.
إن الطب الحديث لا يعرف حملًا زاد على الخمسة والأربعين أسبوعًا ولا يتصور ذلك من خلال المعارف الطبية الحديثة بل يجزم الأطباء باستحالته
(2)
، وإن كان لا يخفى أنها ليست استحالة عقلية.
إذًا فكيف الجمع بين ذلك وبين تلك الأخبار عن الثقات من فقهائنا ينقلون فيها عن الثقات من أهل زمانهم أن حملًا قد طال لسنين؟
إن هذا يسير بإذن الله، وذلك أن المرأة قد ينقطع حيضها السنين ذات العدد، ثم يحصل التبويض، وقبل أن يتبعه الحيض، يحصل الإخصاب، فتظن أنها كانت حاملًا طيلة السنين الماضية. ومما يثبت ظنها أن الكثير من النساء يَتُقْن إلى الحمل فتتولد لديهن أحاسيسُ بحركة الجنين داخل البطن، وقد تكون ريحًا أو باشتهاءِ بعض الأطعمة أو
(1)
«أثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي» باب النكاح، المبحث الخامس. وانظر:«الموسوعة الطبية الفقهية» (ص 376).
(2)
«الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية» ثبت كامل لأعمال الندوة المنعقدة بشعبان 1407 هـ، جلسة المناقشات (ص 682).
الأشربة، وقد يولد الجنين وله سن قد نبتت، وهي غير طبيعية، إلا أنها قد تثبت اعتقاد البعض في طول الحمل.
إن هذا كله يندرج تحت مسمى الحمل الكاذب
(1)
والذي يعرفه الأطباء، ولكن هل يعرفه الفقهاء؟ نعم، إنهم يعرفونه، وقد وُصِف في بعض كتب الفقه، قال كمال الدين رحمه الله:
(2)
.
وبمثل ما قال الكمال رحمه الله نقول، ولكن الخبر عن عائشة إن صح قد يكون من قبيل الرأي لا الرواية عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
(1)
للمزيد عن الحمل الكاذب انظر «بحوث فقهية في مسائل طبية معاصرة» للمحمدي، (ص 125)، و «الموسوعة الطببية الفقهية» لكنعان (ص 376)، و «الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية - ثبت كامل لأعمال الندوة المنعقدة بشعبان 1407 هـ» (ص 682).
(2)
«شرح فَتْح القَدِير» لابن الهُمَام (4/ 362).
• الحق إذًا الذي ينبغي المصير إليه مع عدم وجود النص من الوحي، أن أكثر الحمل لا يتجاوز عشرة الأشهر، ولعل الحسن قد أشار إلى ذلك من غير تصريح في تفسير قوله تعالى:
حيث قال رحمه الله: «ما تغيض الأرحام ما كان من سقط وما تزداد المرأة تلد لعشرة أشهر»
(1)
.
وقد يتجه أن يحتاط القانون فيجعل أكثر الحمل عامًا، كما هو الحال في القانونين المصري والسوري، وبذلك يوافق قول القوانين، وكثير من المعاصرين من الفقهاء
(2)
قول محمد بن عبد الحكم رحمه الله إلا أنه يعتد بالسنة القمرية وتعتد القوانين بالسنة الشمسية.
والطب الحديث قادر عن طريق الأشعة الصوتية والاختبارات المعملية بل والمتابعة الإكلينيكية لحجم الرحم أن يخبر عن مدة الحمل بنوع من الدقة
(3)
.
ويترتب على ذلك القولِ تغيرُ الفتوى في أبواب عديدة كلحوق النسب واللعان وإقامة حد الزنا عند من قال به
(4)
وتأخير الحد لأجل الحمل عند ادعائه والوقف على الجنين والوصية له وغيرها من الأحكام المتعلقة به.
(1)
«تُحْفَة المَوْدُود» لابن القَيِّم (1/ 267).
(2)
انظر توصيات ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية «الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية - ثبَت كامل لأعمال الندوة المنعقدة بشعبان 1407 هـ» (ص 367).
(3)
انظر: «خلق الإنسان بين الطب والقرآن» للبار (ص 367).
(4)
المالكية يجعلون الحمل قرينة على الزنا توجب الحد، إلا أن تثبت المرأة براءتها من الزنا.
المبحث الثالث: الاشتراك في النسب والحمل من ماءين
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: اختلاف الفقهاء في الاشتراك في النسب والحمل من ماءين
المطلب الثاني: رأي الطب في حصول الحمل من ماءين وأثره على الفتوى
المبحث الثالث: الاشتراك في النسب والحمل من ماءين
اختلف الفقهاء في الرجلين يطآن امرأة في طهر، كشريكين في أمة، أو ناكحي شبهة، أو زانيين ثم يدعيان الولد، فذهب البعض إلى إشراكهما في الولد، ومنع من ذلك آخرون.
والحق أن الخلاف الفقهي بين المتقدمين بالذات لم يكن حول إمكان خلق الولد من ماءي الرجلين بقدر ما هو خلاف حول التصرف في هذه المعضلة التي لا حل لها في زمانهم.
أقول ذلك مطمئنًا لأنه، وإن أثار بعض العلماء قضية الخلق من ماءين، فإنه - كما سأبين لاحقًا - لم يكن هذا الأمر سبب الخلاف الأهم، ولم يعره الكثير من الفقهاء النظر، فسواءُ كان ذلك ممكنًا أو ممتنعًا، فالقضية تبقى كما هي. ماذا نصنع بهذا الولد الذي ادعاه رجلان، وليس لأحدهما بينة على دعواه فوق الآخر، وليس لأحدهما مزية على الآخر؟
وتطور المعلومات الطبية أفاد في أمرين يتعلقان بهذا الموضوع هما:
1 -
ليس يمكن أن يخلق جنين واحد من ماءي رجلين.
2 -
يمكن عن طريق البصمة الوراثية تحديد صاحب الولد.
ونحن سنعرض خلاف الفقهاء وأسبابه في المطلب الأول من هذا المبحث ثم رأي الطب في هذه القضية في المطلب الثاني وفيه نبين أثر تطور المعارف والصناعة الطبية على هذا الخلاف.
* * *