الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: علامات الموت
لم يزل الناس جيلا بعد جيل وقرنًا بعد قرن يدفنون أمواتهم ويستدلون على موتهم بعلامات ظاهرة، ذكر منها فقهاؤنا رحمهم الله: استرخاء القدمين، وانفصال الكفين، وانخساف الصُدغين، ومَيْل الأنف، وامتداد جلدة الوجه، وانشمار الخُصيتين مع امتداد جلدتهما، وانقطاع النفس، وإحداد البصر، وانفراج الشفتين. وهذا كل ما ذكره فقهاء أهل السنة
(1)
، وأضافوا إلى ذلك، عند عدم حصول اليقين، التربص بالميت حتى تتغير رائحته
(2)
.
وذكر فقهاء الإباضية غِيَاب النبض بجس عرق بين الكعب والعُرْقُوب وآخَر في الدبر
(3)
. ثم إن المعاصرين من أهل السنة زادوا هذه العلامة في كتاباتهم وإن لم يكن لها في كتب المتقدمين ذكر.
ولم يكن ثم إشكال في هذه المعايير حتى تطورت العلوم الطبية، فأمكن عن طريق أجهزة الإنعاش إبقاء نبض القلب والتنفس بعد موت الدِّمَاغ كاملًا أو جذعه. بل إن الميت الذي حكم بموته بعد توقف القلب والتنفس، إذا سارعوا إلى وضعه على المُنَفِّسَة، قد تظهر فيه بعض علامات الحياة
(4)
.
(1)
انظر «رَدّ المُحتار على الدُّر المُخْتار» لابن عابِدِين (2/ 195)، «شَرح مُخْتَصَر خَلِيل» للخَرَشِيِّ (2/ 123)، «الأُمّ» للشافعي (1/ 314)، «الإنْصَاف» للمِرداوِيِّ (2/ 469).
(2)
«المَجْمُوع» للنَّوَوِيّ (5/ 111).
(3)
«شرح النيل وشفاء العليل» لأطفيش (2/ 558).
(4)
يفعل ذلك بأمريكا والغرب، نزولًا على رغبة بعض الموتى بتجميدهم في سائل النيتروجين ريثما يظهر دواء للموت! وعدد هذه الحالات بأمريكا قد وصل إلى 150. انظر:
Brain Death and Withdrawal of Support Surgical Clinics of North America [Journal] /auth.Maxim D.Hammer MDa، David Crippen، MDb.
وفي السابق كان المريض يموت حتمًا بعد موت الدِّمَاغ أو جِذعه، لتوقف القلب والتنفس اللذَين يتحكم فيهما جِذع الدِّمَاغ؛ وعندها حكموا بالوفاة. وما زاد الأمر تعقيدًا أن ميت الدِّمَاغ يقطع الطب المعاصر يقينًا بموته، وأنه لا بصيص أمل في عودته إلى الحياة
(1)
.
فعندنا الآن إنسان على جهاز المُنَفِّسَة، يتحرك صدره بعمل الجهاز، وينبض قلبه عن طريق مركز ذاتي بالقلب نتيجة لوصول الأوكسجين إليه، ويضخ هذا القلب الدم إلى الأعضاء، فتعمل كُليتاه وينمو شعره وأظفاره، ولكن دماغه قد مات، بل وبدأ في التحلل
(2)
.
والسؤال هنا ذو شِقَّين: هل هذا الإنسان ميت أم حي؟ وهل يجوز رفع أجهزة الإنعاش عنه؟
والحق أن إجابة السؤال الثاني كانت أيسر على الفقهاء بمراحل من إجابة السؤال الأول، حيث قرر جمهورهم، كما سنبين، جواز رفع أجهزة الإنعاش لما ترجح عندهم من عدم وجوب التداوي في مثل هذه الحالة الميؤوس منها، ولما ترجح عند بعضهم من كون صاحب هذه الحالة ميتًا.
أما السؤال الذي حارت فيه العقول واختلف فيه الناس فهو: هل يعتبر موت الدِّمَاغ موتًا، فتثبت به كل أحكام الموت من ساعة تشخيصه؟ أم لا يعتبر الإنسان قد مات إلا بعد رفع الأجهزة ثم توقف عمل القلب؟ وهذا يحدث في العادة بعد دقائق.
(1)
للمزيد، انظر «الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي» بحث الدكتور مختار المهدي، رئيس قسم جراحة الأعصاب، مشفى ابن سينا، الكويت (ص 333).
(2)
المصدر السابق.
ولا يظهر أن ثمة مشكلة، فما المانع من أن يتربص الأطباء بالميت هذه الدقائق العشرين إلى الثلاثين على الأكثر
(1)
حتى يعلنوا موته؟ إن الإشكال في أن هذا القلب يكون عندها قد فقد 50 - 90% خمسين إلى تسعين بالمائة من صَلاحِيَتِه للعمل في جسم إنسان آخر يزرع فيه، فتضيع فرصة إنقاذ مريض آخر يحتاج إلى هذا القلب
(2)
.
إذًا فنحن بحاجة إلى تحديد وقت الوفاة، ومتى تسري أحكامها، وهل ذلك بموت الدِّمَاغ كاملًا، أو جذعه، أم أنه بتوقف القلب عن العمل.
وقد يكون ذلك مهمًا أيضًا في حالات نادرة كموت وريثٍ لهذا الإنسان في تلك الفترة، فمن يرث من؟ أو وضع امرأته وليدًا، فهل انقضت عدتها؟ أو جناية أحد الناس عليه، فهل يُقتصُّ منه؟
إن هذا الموضوع له تعلق مباشر بموضوع بحثنا، لأنه يبحث في إضافة علامة للموت غير تلك العلامات التي ذكرها الفقهاء، ومَرَدُّ ذلك التغيير إلى تطور العلوم الطبية.
وسأتناول الموضوع بالبحث في الصفحات القليلة القادمة، فأمهد بالكلام عن مفهوم الحياة والموت في الشرع والطب، ثم أذكر أقوال العلماء في هذا الخلاف، وبعدها أعرض ما استدل به الفريقان وما يمكن أن يُستَدَلَّ به لهما، وأُردِف ذلك كلَّه بالترجيح والتوصية.
* * *
(1)
«الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي» والكلام للدكتور أحمد القاضي جراح القلب (ص 579).
(2)
«الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي» ، مناقشة بين الفقهاء والأطباء (ص 576 - 586).