الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* بينما ذهب المالكية
(1)
والظاهرية
(2)
إلى القِصاص فيها.
* ودليل القول الأول عدم إمكان المماثلة لأن الجُرح أو الشَّجَّة لا ينتهيان إلى عظم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل ملك ولا قصاص فيما دون الموضحة من الجراحات»
(3)
. والحديث فيه انقطاع فلا يصح.
* ودليل أصحاب القول الثاني هو عموم الأمر بالقِصاص في الجروح وإمكان المماثلة، فالخلاف بينهم أكثره في تصور الواقع المحكوم عليه، وليس من نصٍّ صريحٍ صحيحٍ يحسم الخلاف.
ثم إن السبب الآخر للخلاف هو الفرق بين فهم المالكية وفهم الجمهور لشرط الأمن من الحيف الذي اتفقوا جميعًا عليه كما قدمنا.
أما اختلافهم في قطع بعض المارن والأذن واللسان والشفة والجَفْن والألْية وشفري المرأة فراجع أيضًا إلى إمكان المماثلة كونها تنتهي إلى حد أو لا؛ فمن رأى إمكانها قضى بالقِصاص وإلا فلا.
كسر العظام:
أما كسر العظام:
فالجمهور على عدم القِصاص في عظام البدن، وهم الحنفية
(4)
والشافعية
(5)
والحنابلة
(6)
.
(1)
«مَوَاهِب الجَلِيل» للحَطَّاب (6/ 247 - 248).
(2)
«المُحَلَّى» (10/ 403).
(3)
«سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب النفقات، باب ما لا قصاص فيه (8/ 65) وقال رحمه الله:«هذا منقطع» .
(4)
«بَدَائع الصَّنَائع» للكَاسَانِيّ (7/ 308)، «تبيين الحقائق» للزَّيْلَعِيّ (6/ 111).
(5)
«حَاشِيَة البُجَيرَمِيّ» (4/ 144 - 145).
(6)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 256، 376).
بينما يرى المالكية القِصاص فيها
(1)
. واتفقوا مع الجمهور على عدم الاستيفاء في كسر عظام الرأس
(2)
وما يعظُم فيه الخطر كعظام الصدر والصُّلب والعنق وما أشبه ذلك
(3)
.
واحتج الجمهور بعدم إمكان المماثلة، وأن الكسر لا يكون إلا إذا أصاب ما حوله من اللحم ضرر لا يمكن تقديره. واستدلوا على المالكية باتفاقهم على عدم الاستيفاء في عظام الرأس فكذلك البدن
(4)
.
والجواب هو الفارق بين عظام الرأس وسائر البدن وأن المالكية لا يستثنون الرأس فقط بل والصدر والصلب والعنق وما أشبه ذلك مما في كسره خطر على حياة المستوفى منه، وكل ذلك جريًا على قاعدتهم في الاستيفاء ما أمكن ما لم يؤد إلى خطر الهلاك على الجاني فلم يتناقضوا.
أما عدم إمكان المماثلة المطلقة فإن المطلوب مطلق المماثلة وإلا تعطل القِصاص فيما دون النفس جملةً.
* واستدل المانعون من القِصاص في العظام بآثار منها:
ما رواه عبد الرزاق عن عِكْرِمَة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا قود في الشلل ولا في العرج ولا في الكسر وفيه العقل»
(5)
.
وما رواه ابن أبي شَيْبَة:
• «عن عَطَاء عن عمر قال إنا لا نُقيد من العظام
…
(1)
«تَبصِرة الحُكَّام» لابن فَرْحُون (2/ 169).
(2)
ذكر الحافظ في «الفتح» نقل الطَّحَاوِيّ إجماعهم عليه. «فَتْح البَارِي» (12/ 224).
(3)
«شَرح مُخْتَصَر خَلِيل» للخَرَشِيِّ (8/ 17).
(4)
قاله الطَّحَاوِيّ رحمه الله. انظر «فَتْح البَارِي» (12/ 224).
(5)
«مُصَنَّف عبد الرَّزَّاق» كتاب العقول باب ما لا يستقاد (9/ 460).
• وعن ابن عباس قال ليس في العظام قصاص
…
• وعن حُصَين قال كتب عمر بن عبد العزيز ما كان من كسرٍ في عظم فلا قصاص فيه
…
• وعن الشَّعْبِيّ قال ليس في شيء من العظام قصاص إلا الوجه والرأس
…
• وعن الزُّهْرِيّ قال ليس في الآمة ولا في الجائفة ولا في كسر العظام قصاص»
(1)
.
أما ما روَوْه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يثبت للانقطاع وكذلك ما روَوا عن عمر وابن عباس
(2)
وأما ما رووا عن التابعين فلا حجة فيه وإن صلَح للاستئناس والاعتضاد.
* ومتمسَّك المالكيةِ عمومُ الأمر بالقِصاص في الجروح وما في معناها من الشجاج وإبانة الأعضاء وإذهاب المنافع ما أمكن مُطلَق المماثلة وما أُمِن الهلاك. وهو الظاهر من مقصود الشرع والأقرب إلى العدل.
• ظهر مما سبق أنهم جميعًا متفقون على وجوب القِصاص إذا أمكن، بل حكى ابن قُدامة الإجماع عليه
(3)
وليس في الوحيين استثناءٌ لشيءٍ إلا ما كان من استثناء ما لا يمكن فيه مُطلق المماثلة أو لا يؤمن فيه من هلاك المستوفى منه لما تقدم من أمره تعالى بالمماثلة ومن عصمة الجاني إلا بقدر جنايته وأن الشريعة مبناها على العدل.
• بقي أن كثيرًا من اختلافهم في التطبيق راجع إلى الخلاف في الإمكان، فمن الذي يرد إليه هذا الأمر؟ هذا موضوع المطلب الآتي.
(1)
«مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة» كتاب الديات باب من قال لا يقاد من جائفة ولا مأمومة ولا منقلة (5/ 394).
(2)
انظر كلام الحافظ ابن حَجَر رحمه الله عن هذه الآثار «الدراية في تخريج أحاديث الهِدَايَة» (2/ 269).
(3)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 251).
المطلب الثاني: أقوال الفقهاء في الرجوع إلى الأطباء وأهل الخبرة
قرر الفقهاء رحمهم الله أن معرفة إمكان الاستيفاء واحتمال السراية والمماثلة وإمكان عودة المنفعة للمعتدى عليه وتقدير الجناية وغيرها مما يختص به أهل الخبرة من الأطباء والجراحين، وكانوا يحيلون عليهم ما يتعلق بذلك كله.
قال ابن مُفْلِح: «ولا قَوَد وَلا دِيَة لما رُجِي عودُه من عَيْنٍ أو منفعةٍ في مدةٍ يقولها أهلُ الخبرة»
(1)
وقال: «وإِن اختلفا في ذَهاب بصره أُرِي أهلَ الخبرة»
(2)
.
(3)
.
وفي «المُغْنِي» ، قال ابن قُدامة:«خلعَ عظمَ المَنْكِب ويقال له مُشْط الكتف، فيرجع فيه إلى اثنين من ثقات أهل الخبرة، فإن قالوا يمكن الاستيفاء من غير أن تصير جائفة، استوفي وإلا صار الأمر إلى الدِّيَة»
(4)
.
(1)
«الفُرُوع» لابن مُفْلِح (5/ 495).
(2)
«الفُرُوع» لابن مُفْلِح (6/ 33).
(3)
«الكَافِي في فِقْه ابن حَنبَل» لابن قُدامة (4/ 28).
(4)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 256).
وفي «إعَانَة الطَّالِبِين» ، قال الدِّمْياطِيّ
(1)
(2)
.
وفي «الطُّرُق الحُكمِيَّة» ، قال ابن القَيِّم:«ومنها ما يختص بمعرفة أهلِ الخبرة والطب كالمُوضِحَة وشبهها»
(3)
.
وفي «مجمع الأنهر» ، قال شَيْخِي زَادَه
(4)
رحمه الله: «وقيل ذَهاب البصر يعرفه الأطباء، فيكون قول رجلين منهم عدلين حجةً فيه»
(5)
.
وهذا الذي ذكروا من الرجوع إلى الأطباء في معرفة قدر الجناية وإمكانية عود المنفعة أو العين وإمكانية المماثلة والأمن من الزيادة أو الهلاك بالسراية وغير ذلك يقودنا إلى المطلب القادم وهو معرفة ما أسهم به تطور المعارف والصناعة الطبية في تغير الفتوى في باب استيفاء القِصاص.
(1)
هو: أبو بكر عثمان بن محمد شطا الدِّمياطِيّ الشافعي البكري، فقيه متصوف مِصْرِيّ، ولد سنة 1266 هـ استقر بمكة، توفي رحمه الله سنة 1310 هـ، له كتب منها:«إعَانَة الطَّالِبِين على حل ألفاظ فتح المعين» في فقه الشافعية، و «الدرر البهية فيما يلزم المكلف من العلوم الشرعية» ، و «القول المبرم في المواريث» ، و «كفاية الأتقياء في المواريث». راجع ترجمته في: الأعلام للزرِكليّ (4/ 214)، و «مُعْجَم المُؤلِّفِين» (3/ 73).
(2)
«إعَانَة الطَّالِبِين» للدِّمياطِيِّ (4/ 121).
(3)
«الطُّرُق الحُكمِيَّة» لابن القَيِّم (1/ 188).
(4)
هو: عبد الرحمن بن محمد بن سليمان، المعروف بشَيْخِي زَادَه، ويقال له الداماد، فقيه حنفي، من أهل كليبولي بتركيا من قضاة الجيش له:«مَجمَع الأنهُر في شرح مُلتقَى الأبحُر» ، و «نظم الفرائد» في مسائل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية، توفي رحمه الله سنة 1078 هـ. راجع ترجمته في:«الأعلام» للزرِكليّ (3/ 332)، «مُعْجَم المُؤلِّفِين» (5/ 175).
(5)
«مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر» لشَيْخِي زَادَه (4/ 345).