الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
مناقشة الأدلة
* أما من قال بثلاثة الأشهر فدليله:
أن مختلفة الأقراء التي يتباعد حيضها هي من المرتابات كما تقدم من قول عِكْرِمَة رحمه الله، والله عز وجل يقول:
ولكن الجمهور يرى أن الريبة هنا ريبة في الحكم لا في الحيض. ففي «سنن البَيْهَقِيّ» : «قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن أناسا من أهل المدينة يقولون قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء قال: وما هو؟ قال: الصغار والكبار وذوات الحمل قال فنزلت {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}»
(1)
.
ورجح هذا التأويل الطَّبَرِيّ
(2)
وقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال
(1)
«سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب العدد، باب سبب نزول الآية في العدة (7/ 414).
(2)
هو: أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطَّبَرِيّ، المؤرخ المفسر الإمام ولد في آمل طبرستان سنة 224 هـ واستوطن بغداد، وعرض عليه القضاء فامتنع، والمظالم فأبى، وتوفي بها سنة 310 هـ، له: أخبار الرسل والملوك وجامع البيان في تفسير القرآن وغيرهما، وهو من ثقات المؤرخين، بل ذكر أنه كان أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق وكان مجتهدًا في أحكام الدين لا يقلد أحدًا، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه. راجع ترجمته في:«طَبَقَات الفُقَهَاء» (1/ 102)، «وَفَيَات الأعْيَان» (4/ 191)، «طَبَقَات الشَّافِعِيَّة الكُبْرَى» (3/ 120)، «طَبَقَات الشَّافِعِيَّة» لابن قاضي شُهْبَة (2/ 100).
عني بذلك إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهن وذلك أن معنى ذلك لو كان كما قاله من قال إن ارتبتم بدمائهن فلم تدروا أدم حيض أو استحاضة لقيل إن ارتبتن لأنهن إذا أشكل الدم عليهن فهن المرتابات بدماء أنفسهن لا غيرهن»
(1)
.
ولكن ما ذكره الطَّبَرِيّ رحمه الله لا يخلو من اعتراض، فإن الريبة تصيب المرأة وزوجها والقاضي جميعًا ولو كان الأمر كما قال لقال إذ ارتبتم. ومن أجل ذلك فإن جمعًا من أهل التأويل ذهبوا إلى أن المقصود بالآية الريبة في الحيض لاختلافه. ففي أحْكَام القُرآن للجَصَّاص:«وروى مَعْمَر عن قَتَادَة عن عِكْرِمَة في التي تحيض في كل سنة مرة قال هذه ريبة عدتها ثلاثة أشهر وروى سفيان عن عمرو عن طاوس مثله»
(2)
.
وقال القُرْطُبِيّ: «وقال عِكْرِمَة وقَتَادَة من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة»
(3)
. ونقل عن الزجاج قوله: «وقال الزجاج إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها» (3).
(4)
.
(1)
«جَامِع البَيَان عن تَأوِيل آيِ القُرآن» للطَّبَرِيّ (28/ 141).
(2)
«أحْكَام القُرآن» للجَصّاص (5/ 352).
(3)
«أحْكَام القُرآن» للقُرْطُبِيّ (18/ 163).
(4)
«جَامِع البَيَان عن تَأوِيل آيِ القُرآن» للطَّبَرِيّ (28/ 141).
* وأما القائلون بأنها تتربص تسعة أشهر ثم تعتد بثلاثة، فلهم:
1 -
ما روي عن عمر رضي الله عنه فيما جاء في «سنن البَيْهَقِيّ» : «عن ابن المُسَيَّب أنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضة فإنها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها حمل فذاك وإلا اعتدت بعد التسعة ثلاثة أشهر ثم حلت»
(1)
.
وقد يجاب بأن سعيد بن المُسَيَّب لم يكن له سماع من عمر رضي الله عنه إلا ما كان من سماعه نعي النعمان بن مقرن
(2)
. ولكن تصحيح سماع سعيد من عمر رضي الله عنه قول جماعة من أهل الحديث كما انتصر له الحافظ ابن حَجَر
(3)
. ومراسيله عن عمر يقبلها من أهل الحديث من لا يقبل غيرها لقوتها، وهي بل ريب حجة على من يقبل المراسيل من الفقهاء كالحنفية رحمهم الله.
2 -
وقالوا إن عمر قد حكم بهذا بمحضر من الصحابة ولم يخالفوه، فكان إجماعًا
(4)
.
ولكن الشافعي أول من نقل الإجماع هو ذاته الذي تأول خبر عمر رضي الله عنه فقد جاء في «الأم» : «(قال الشافعي) رحمه الله: في قول عمر رضي الله عنه في التي رفعتها حيضتها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها حمل فذلك وإلا اعتدت بعد التسعة ثلاثة أشهر ثم حلت يحتمل قوله في امرأة قد بلغت السن التي من بلغها من نسائها يئسن فلا يكون
(1)
«سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب العدد، باب عدة من تباعد حيضها (7/ 419).
(2)
انظر «المُحَلَّى» لابن حَزْم (10/ 268).
(3)
«تهذيب التهذيب» لابن حَجَر (4/ 77).
(4)
انظر «المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 88)، ونقل عن الشافعي قوله:«كان يقضي به أمير المؤمنين عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكر عليه فكيف تجوز مخالفته» .
مخالفا لقول ابن مسعود رضي الله عنه وذلك وجه عندنا»
(1)
.
والظاهر من كلام عمر رضي الله عنه غير ما ذكر الشافعي رحمه الله فإنه رضي الله عنه قال «أيما امرأة» .
3 -
واستدلوا بأن المراد معرفة براءة الرحم، وقد علم بمضي تسعة الأشهر من غير ظهور الحمل، فاعتدت بعدها بثلاثة أشهر، ومطالبتها بالمزيد فيه من الحرج والمشقة ما فيه.
قال ابن زيد في قوله واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم
…
(2)
.
وقال ابن قُدامة: «ولأن الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها وهذا تحصل به براءة رحمها فاكتفي به
…
ولأن عليها في تطويل العدة ضررًا فإنها تمنع من الأزواج وتحبس دائما ويتضرر الزوج بإيجاب السكنى والنفقة عليه وقد قال ابن عباس لا تطولوا عليها الشقة كفاها تسعة أشهر»
(3)
.
* أما أقوال سيدنا الشافعي في القديم أنها تتربص ستة أو سبعة أشهر أو أربع سنين ثم تعتد بثلاثة أشهر، فإنه إنما ذهب إلى ذلك ليتأكد من براءة الرحم، وأغلب الحمل تسعة أشهر، والعبرة بالغالب وليس على هذه الأقوال دليل من نقل صحيح أو تعليل وجيه في ضوء المعارف الطبية المعاصرة.
(1)
«الأُمّ» للشافعي (5/ 212).
(2)
«جَامِع البَيَان عن تَأوِيل آيِ القُرآن» للطَّبَرِيّ (28/ 141).
(3)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 89).
* أما من قالوا إن صاحبة الأقراء المختلفة تتربص أقراءها ولا تعتد بغير الحيض مهما طال بها الزمان، فلهم:
1 -
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [سورة الطلاق: 4].
وهذه لم تيأس وليست من اللائي لم يحضن، فلم يبق لها إلا الاعتداد بالأقراء.
2 -
ولهم ما رواه البَيْهَقِيّ: عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال كانت عند جده حبان امرأتان له هاشمية وأنصَارِيّة فطلق الأنصَارِيّة وهي ترضع فمرت بها سنة ثم هلك عنها ولم تحض فقالت أنا أرثه لم أحض فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى لها عثمان رضي الله عنه بالميراث فلامت الهاشمية عثمان رضي الله عنه فقال عثمان رضي الله عنه ابن عمك هو أشار إلينا بهذا يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3 -
وعن عبد الله بن أبي بكر أخبره أن رجلا من الأنصار يقال له حبان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي ترضع ابنته فمكثت سبعة عشر شهرا لا تحيض يمنعها الرضاع أن تحيض ثم مرض حبان بعد أن طلقها سبعة أشهر أو ثمانية فقيل له إن امرأتك تريد أن ترث فقال لأهله احملوني إلى عثمان رضي الله عنه فحملوه إليه فذكر له شأن امرأته وعنده علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما فقال لهما عثمان رضي الله عنه ما تريان فقالا نرى أنها ترثه إن مات ويرثها إن ماتت فإنها ليست من القواعد اللاتي قد يئسن من المحيض وليست من الأبكار اللاتي لم يبلغن المحيض ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير فرجع حبان إلى أهله فأخذ ابنته فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة ثم حاضت حيضة أخرى ثم توفي حبان قبل أن تحيض الثالثة
فاعتدت عدة المتوفى عنها زوجها وورثت
(1)
. وقال ابن المُلَقِّن: «وهذا الأثر صحيح»
(2)
.
4 -
وعن حَمَّاد والأعمش ومنصور عن إبراهيم عن علقمة بن قيس أنه طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم حاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا ثم ماتت فجاء إلى بن مسعود رضي الله عنه فسأله فقال حبس الله عليك ميراثها فورثه منها
(3)
. قال ابن حَزْم هذا في غاية الصحة عن ابن مسعود
(4)
.
أما أثر حبان فهو في حالة خاصة وهي الرضاع وليس غيرها مثلها فإن الرضاع مع الحمل سببان طبيعيان لانقطاع الحيض. والمذاهب الأربعة متفقة على أن المرضع التي انقطع حيضها للرضاع تعتد بالأقراء.
وأما خبر ابن مسعود مع علقمة فيحتمل أيضًا أن امرأته كانت ترضع فإن لم تكن فقد يكون رأيًا له رضي الله عنه وليس رأيه بأولى من رأي عمر رضي الله عنه. مع أن أثر بن مسعود ليس حجة على من قال إنها تعتد سنة، فإنهم يقولون أنا لو حاضت تستأنف سنة جديدة وهكذا حتى تتم سنة بيضاء أو ثلاثة أقراء.
(1)
«سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب العدد، باب عدة من تباعد حيضها (7/ 419).
(2)
«البَدْر المُنِير» لابن المُلَقِّن (8/ 222).
(3)
«سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب العدد، باب عدة من تباعد حيضها (7/ 419).
(4)
«المُحَلَّى» لابن حَزْم (10/ 268).