الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
أما المواطن التي يمكن استخدام البصمة الوراثية فيها دون القيافة فهي فيما يظهر لي:
1 -
نفي الوالد لولده:
إن العمل بالبصمة الوراثية لن يلغي حكم اللعان
(1)
، ولكنه سيساعد في تطبيقه.
إن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6].
فاللعان إذًا لا يلجأ إليه إلا عند تعذر البينات وعدم وجود الشهود. ولم يكن نفي الزوج الولد المولود على فراشه ممكنًا من غير شهود
(2)
ولذلك شرع الله اللعان، أما وقد أنعم الله علينا بوسيلة أقرب إلى التوصل للحقيقة وإقامة العدل، فالواجب الأخذ بها، فيشترط القاضي على الملاعن الذي يريد أن ينتفي من ولده أن يجري فحوص البصمة، فإن أظهرت عدم أبوته للولد، فعندها يلاعن ووجه ذلك أنه حتى لو أقرت المرأة بالزنا من غير لعان، فإن الولد لا ينتفي إلا باللعان، وهذا الحكم لردع الرجال عن الانتفاء إلا عند أشد الظروف، فإن في اللعان أمام الخلق ما فيه مما يحجز أكثر الناس عنه. وإنه لو اكتفي بالبصمة في الانتفاء لاستسهل ذلك كثير من الناس.
(1)
ذهب الشيخ محمد مختار السُّلامِيّ إلى الاستغناء بالبصمة عن اللعان لغرض نفي الولد، ولست أعرف أن غيره - حفظه الله - قال بما قال به. انظر «الطب في ضوء الإيمان» له (ص 184). ولا يقول أحد بأن البصمة تحل محل اللعان في كل شيء، إذ إن الملاعن قد يفعل ذلك ليتهم امرأته بالزنا دون وجود ولد.
(2)
ويمكن أيضًا استعمال البصمة الوراثية في حال كون النفي باللعان غير ممكن لكون المرأة ليست زوجة كالموطوءة بشبهة كما تقدم من أن الأحناف لا يرون ملاعنتها.
أما إذا أثبتت البصمة أبوته للولد، فلا يجوز له أن ينتفي من الولد
(1)
وإن جاز أن يلاعن للتفريق بينه وبين زوجه وإسقاط حد القذف عن نفسه، وذلك لأنها ربما زنت ولكن الولد جاء من زوجها الذي جامعها في نفس الطهر الذي زنت فيه.
أما الملاعن لغرض تهمة الزوجة بالزنا دون الانتفاء من ولد فلا شأن للبصمة الوراثية به.
وهل يأمر القاضي الملاعن أثناء حمل امرأته بالتربص حتى تلد وتُجْرَى فحوص البصمة؟ لعل هذا لن يُحْتاج إليه عمليًّا، فإن عينة من المشيمة - والتي تؤخذ والجنين في الرحم - يمكن أن تُجْرى عليها تلك الفحوص. أما إذا تعذر ذلك، فلا يستبعد أن يأمر القاضي الملاعن بالتربص، فإن الحنفية لا يجيزون ملاعنة الحامل أصلًا وهو المشهور عند الحنابلة خلافًا للمالكية والشافعية
(2)
، وهذا وإن كان القول الثاني هو الأقوى لأنه ظاهر من الحديث أن هلالا رضي الله عنه لاعن وامرأته حامل، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «انظروه فإن جاءت به
…
» ولكن ولي الأمر له أن يمنع سماع بعض الدعاوى
(3)
، وهو هنا لا يزيد على تأجيل سماع الدعوى.
(1)
وهذا هو المفهوم من توصيات اللجنة التي أوكل إليها دراسة موضوع البصمة من قبل مجلس المجمع الفقهي، والتي شملت من الفقهاء والأطباء الدكاترة صالح المرزوقي وعلي القره داغي ومحمد علي البار ومحمد باخطمة، قالوا:«وحينئذ [عند إرادة اللعان] تعرض المحكمة على الرجل أن يلجأ إلى البصمة الوراثية، أو تأمره بذلك، وحينما تكون النتيجة إيجابية ينتهي أمر الشك، أما إذا كانت سلبية فلا ينتفي النسب إلا باللعان» . انظر «فقه القضايا الطبية المعاصرة» للقره داغي والمحمدي (ص 365). ولقد صرح الدكتور علي القره داغي بأن هذا مراده في نفس الكتاب (ص 355).
(2)
انظر «المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 61).
(3)
قال به المالكية عند ظهور كذب الدعوى.
والسؤال الآخر هنا هو ماذا لو ثبت أن الولد ليس ابن الزوج، هل يقام الحد على الزوجة؟
والجواب أن أمر البصمة الوراثية ليس متفقًا عليه بين الفقهاء، وكفى بذلك شبهةً تدرأ الحد عن المرأة، ولا يتصور أن يحصل الإجماع على مثل هذا؛ لأنه كأكثر قضايا النوازل التي ليس فيها نص صريح يتعذر أن يتفق الناس عليها، ولذلك ستبقى إقامة الحدود - دون درئها - خارج دائرة استعمال البصمة الوراثية فيما أراه والله تعالى أعلم.
أما لو اتفقوا على كون البصمة دليلًا، فيجوز أن يجري فيها الخلاف الجاري في الحمل يظهر على المرأة لا زوج لها هل تحد
(1)
.
2 -
الاستلحاق:
أما قولهم - حفظهم الله - في التوصية الثالثة: إن استلحاق مجهول النسب حق للمستلحق إذا تم بشروطه الشرعية، فصحيح، ولكن إذا استلحق الولد رجلان فيعمل بالبصمة لأنها أقوى من القيافة؛ وكذلك إذا ظهرت قرائن كذب المستلحق أو كذبته زوجه يعمل بالبصمة لقطع التنازع؛ وإذا ادعى لقيطًا واحتاج إلى بينة - كما هو عند المالكية - احتكم إلى البصمة. وقد يسوغ اشتراط عمل فحوص البصمة عند الاستلحاق، فإن الفقهاء اشترطوا فيه ألا يكذبه العقل أو الحس
(2)
أو الشرع
(3)
، فإن
(1)
الحنفية يسألونها فإذا ادعت الإكراه أو الشبهة يدرءون الحد عنها، والشافعية عندهم روايتان أظهرهما أنها لا يجب عليها الحد، والمالكية قالوا إن كانت مقيمة بالحي تحد إلا أن تأتي بأمارة على استكراهها أو بينة على زواجها وإن كانت طارئة فلا. انظر «الفقة على المذاهب الأربعة»:(5/ 100 - 101).
(2)
كأن يدعي ابن العشرين ولدًا عمره اثنتا عشرة سنة.
(3)
كأن يكون الولد صاحب نسب معلوم ثبت بطريق شرعي.
كذبته البصمة لم يثبت. وقد يعارض بأن الشارع متشوف لإثبات النسب والمستلحق له حق الاستلحاق ما كانت أبوته للولد ممكنة. ولكن يبقى أنه إن لم يكن الأب الحقيقي فإنه يدخل على قومه من ليس منهم ويكون هذا المُقَر له
(1)
محرمًا لزوجه وبناته وليس بينهم علاقة. وقد يسبق رجل أو امرأة إلى استلحاق طفل مجهول النسب كما في الحروب وغيرها من الكوارث، فيثبت بذلك النسب، ويحرم الوالد الحقيقي الذي تأخر في الدعوى من حقه في ولده
(2)
.
3 -
الولد يستلحقه إنسان ثم يبلغ ويظهر له أنه ليس أباه وأن أباه غيره:
فقد يكون له أن يطلب الاستيثاق بالبصمة الوراثية. وذلك أن هذا الولد الذي بلغ وظهر له أنه نسب إلى غير أبيه بين مفسدتين: الأولى نقض نسب قد ثبت بطريقة شرعية، الثانية أن يدعي إلى غير أبيه وهو يعلم ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَن ادَّعَى إِلى غَيْرِ أَبِيهِ أَو انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجمَعِين لا يَقْبَلُ اللهُ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفًا ولا عَدْلًا»
(3)
.
فإن كان ظنه غالبًا أنه ليس ابن ذاك الرجل الذي استلحقه، فله أن يطالب بتصحيح النسب (سبق أن بينا أن هذا إذا لم يكن النسب قد ثبت بالفراش، فإن النسب الثابت بالفراش لا يحل الطعن فيه من قبل الولد ولا أحد سوى صاحب الفراش).
(1)
الولد المستلحَق الذي أقر له المستلحِق بالأبوة.
(2)
وإلى هذا ذهب الدكتور علي القره داغي فيمن استلحق لقيطًا ثم ظهر أهله. انظر «فقه القضايا الطبية المعاصرة» للقره داغي والمحمدي (ص 354).
(3)
«صَحِيح مُسْلِم» كتاب العتق، باب تحريم تولي العتيق غير مواليه (2/ 1146 رقم 1508). قوله (صرفا ولا عدلا) الصرف التوبة وقيل النافلة والعدل الفدية وقيل الفريضة «نيل الأوطار» للشوكاني (6/ 189).
4 -
تفيد البصمة الوراثية في تحديد أنساب مجهولي النسب من اللقطاء:
فيسهل على السلطات التعرف على آباء الطفل اللقيط الذي ترك بجانب مسجد أو دار أيتام أو غيرها، وفي ذلك حفظ لحق الطفل وتحميل المسؤولية للوالدين ورفع العبء عن كاهل المجتمع في تربية هذا العدد الكبير من الأطفال، إلى غير ذلك من الفوائد. على أن النسب سيثبت بالفعل للولد ببينة أو إقرار.
5 -
إذا تنازع رجل وزوجه في ولد:
فادعت أنه ولدها من غيره وادعى أنه ولده من غيرها - وذلك في ولد سابق على زواجهما - ولم تكن لأحدهما بينة قضي بينهما بالبصمة. أو ادعى الزوج على امرأته أنها حملت بالولد قبل الزواج أو بعد الطلاق.
6 -
في حالة وطء امرأة متزوجة بشبهة:
فيمكن عندها للبصمة أن تنسب الولد إلى الزوج أو الواطئ بشبهة
(1)
.
أما قولهم - حفظهم الله - في التوصية الرابعة:
فإن المرء يتردد في ذلك، وقد يكون ذلك وجيهًا، فإن الإقرار حجة قاصرة على المُقِر دون غيره، وحتى مع وجود البصمة وإمكان التثبت فقد يقال إن الحقوق الاجتماعية لا تفرض
(1)
وإلى ما رجحنا في هاتين المسألتين الأخيرتين ذهبت اللجنة التي أوكل إليها دراسة موضوع البصمة من قبل مجلس المجمع الفقهي، والتي شملت من الفقهاء والأطباء الدكاترة صالح المرزوقي وعلي القره داغي ومحمد علي البار ومحمد باخطمة. انظر «فقه القضايا الطبية المعاصرة» للقره داغي والمحمدي (ص 365).
على الناس بالوسائل التقنية مجردة من الاعتبارات الأخرى، فإن مجهول النسب هذا الذي لا يمكن إلحاقه بأبيه بأحد الأدلة الشرعية السابق ذكرها كالفراش والبينة والاستفاضة والإقرار، وقد مات أبوه فلا نستطيع أن نلزمه بمسؤوليته الآن تجاه الولد، والورثة نشؤوا وهم لا يعرفون أن لهم أخًا آخر حتى مات أبوهم وجاء وقت قسمة الميراث، فإن ظهور أخ أو إخوة الآن فجأة، مع عدم كون أمه فراشًا أو عدم القدرة على إثبات ذلك أمر يؤدي إلى اضطراب في العلاقات الاجتماعية، ولا يمكن أن يجبر هؤلاء على قبول ذاك الأخ أو أولئك الإخوة إلا عن رضى نفس، ولكن يقال إنهم إذا أرادوا التحقق من النسبة الطبيعية (البيولوجية) لهذا الأخ المزعوم بأبيهم فإن لهم طلب الاستيثاق عن طريق البصمة الوراثية.
وقد يعارض ذلك بأن بعض الفقهاء يجعلون إقرار أخوين أو أخ وشخص آخر بينة على النسب، فهل إقرار أخ وتأييد البصمة له يعامل كبينة؟ وهل ادعاء الولد البنوة وتأييد البصمة للدعوى يثبت النسب؟ لا شك أنه محتمل جدًّا سيما عند من يرى أن نسب ولد الزنا يثبت للزاني ما لم تكن الأم فراشًا لغيره.
أما توقفهم - حفظهم الله - في التوصية الخامسة في جواز استلحاق المرأةِ المجهولَ النسب، فلا شك أن هذا الموضوع متشعب وأهل العلم قد اختلفوا فيه قديمًا، قال الغَزالِيّ رحمه الله:«وفي استلحاق المرأة ثلاثة أوجه [أي عند الشافعية] أحدها الصحة كالرجل، والثاني لا لأن الولادة يمكن إثباتها بالشهادة بخلاف الأب، والثالث أنها إن كانت خلية من الزوج لحقها وإن كانت ذات زوج فلا يمكن الإلحاق بها دون الزوج، ولا يمكن الإلحاق بالزوج مع إنكاره»
(1)
.
(1)
«الوَسِيط» للغَزالِيّ (7/ 453).
• والذي يظهر لي أن المرأة قد تعجِز في بعض الأحيان عن إثبات الوِلادة بالشهادة؛ كأن تكون وَلَدَت من غير حضور أحدٍ أو ماتت القابلة أو حصل لُبس في المستشفى أو غير ذلك. وعندها فإن استعمال البصمة الوراثية يكون مناسبًا؛
(1)
فإن كانت المرأة خَلِية من الزوج جرى في حقها الخلاف الحاصل في المرأة تحمل ولا زوج لها
(2)
وإن كانت ذات زوج فإن هذا الزوج إما أن يقر بالطفل أو ينفيه، وفي حالة نفيه فإنه يلجأ أيضًا إلى البصمة الوراثية لنفيه ولا تلزمه للإقرار.
• إن التقدم الطبي قد يسر لنا سبلًا ووسائل للتوصل إلى الحقيقة وإقامة العدل، مثل بصمات الأصابع التي تستخدم ضمن الأدلة الجنائية في كل أنحاء العالم. والبصمة الوراثية توصلنا إلى التأكد من صاحب النطفة التي كان منها الولد، ومن ثم يلحق به الولد الذي لا والد له غيره أو المتنازع فيه بين متساويين في الحق. وإن مقصود الشارع هو إقامة العدل والتوصل إلى الحقيقة فأيما وسيلة أوصلت إلى ذاك المقصود فحكمها حكمه
(3)
ما لم تكن حرامًا أو ملغاة بدليل من الوحي. وفي نفس الوقت فإن ثبوت النسب بالفراش هو أقوى أنواع الثبوت، والنصوص ظاهرة على عدم التعرض لهذا النسب بالتشكيك. وإن التمسك بذلك ليس لترقيع الواقع
(1)
وإلى هذا ذهب المشايخ محمد مختار السُّلامِيّ وحسن الشاذلي ومحمد رأفت عثمان وأحمد شرف الدين وسعد الدين الهلالي. انظر «الحلقة النقاشية حول حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب» ثبت كامل لأعمال الحلقة (ص 249 - 152).
(2)
الحنفية يسألونها فإذا ادعت الإكراه أو الشبهة يدرءون الحد عنها، والشافعية عندهم روايتان أظهرهما أنها لا يجب عليها الحد، والمالكية قالوا إن كانت مقيمة بالحي تحد إلا أن تأتي بأمارة على استكراهها أو بينة على زواجها وإن كانت طارئة فلا. انظر «الفقة على المذاهب الأربعة»:(5/ 100 - 101).
(3)
انظر «إعْلام المُوَقِّعِين» لابن القَيِّم (3/ 136).
على حساب الحقيقة، بل هو من موافقة حكمة الشارع في الحفاظ على سلامة المجتمع والأسرة وطرح الوسوسة والريبة.
هذا ما ترجح لدي بشأن الاستفادة من التطور الطبي المتعلق بالبصمة الوراثية في تحقيق مقصود الشارع بحفظ الأنساب وعدم اختلاطها، والله تعالى أعلم.
* * *