الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويعمل بها المالكية
(1)
في إثبات حد الخمر بقرينة الرائحة والقيء، وحد الزنا بقرينة الحمل، وهذا هو رأي ابن تَيمِيَّة
(2)
.
* وزاد ابن القَيِّم
(3)
فاعتبر القرينة في كل الحدود، ولا شك أنه إنما يعني القرينة القوية دون غيرها.
القصاص:
أما القِصاص، فالجمهور على منع اعتبار القرائن فيه، وهم الحنفية
(4)
والمالكية
(5)
والشافعية
(6)
والحنابلة
(7)
.
وخالف في ذلك ابن الغَرْس
(8)
من الحنفية، وابن فَرْحُون
(9)
من المالكية، واختار قولهما الكثير من المعاصرين وأيدته «مجلة الأحكام»
(10)
.
(1)
«شَرح مُخْتَصَر خَلِيل» للخَرَشِيِّ (8/ 109)، «حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ» (4/ 353)، «مِنَح الجَلِيل» للشيخ عُلَيش (9/ 352)، «المُدَوَّنَة» أجوبة مالك برواية سَحْنُون (16/ 209).
(2)
انظر: «الإنْصَاف» للمِرداوِيِّ (10/ 233)، «الفُرُوع» لابن مُفْلِح (6/ 85)، اشترط ألا يدفع المتهم الحد عن نفسه بشبهة و «السياسة الشرعية» (136).
(3)
انظر «الطُّرُق الحُكمِيَّة» و «إعْلام المُوَقِّعِين» الأبواب الخاصة بالعمل بالقرائن.
(4)
«حَاشِيَة ابن عابِدِين» (7/ 438).
(5)
«حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ» (9/ 287).
(6)
«أسْنَى المَطَالِب» للأنصَارِيّ (4/ 105)، «مُغْنِي المُحْتاج» للشِّرْبِينِيِّ (4/ 118).
(7)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 403).
(8)
«حَاشِيَة ابن عابِدِين» (5/ 354).
(9)
انظر كتابه «تَبْصِرَة الحُكَّام» (1/ 273).
(10)
«درر الحكام شرح مجلة الأحكام» لحَيْدَر (4/ 484).
* ومقتضى عموم كلام ابن القَيِّم أنه يراه، وإن كان لم يصرح بذلك في القِصاص، بل رأى أن يحكم عند اللوث بالقَسامة
(1)
ولم يذكر القرائن.
أما مطلق العمل بالقرائن، فكما تقدم، لا يكاد يخلو مذهب من العمل بها في الكثير من التطبيقات، لذا فإن العلامة القَرَافِيّ الذي صرح بعدم اعتبارها - فيما تقدم - يقول في مسالك الحكم والقضاء:
«الحِجاج التي يقضي بها الحاكم سبعَ عشرةَ حجةً الشاهدان، والشاهدان واليمين، والأربعة في الزنا، والشاهد واليمين والمرأتان، واليمين والشاهد والنكول، والمرأتان والنكول، واليمين والنكول، وأربعة أيمان في اللعان، وخمسون يمينا في القسامة، والمرأتان فقط في العيوب المتعلقة بالنساء، واليمين وحدها بأن يتحالفا، ويقسم بينهما فيقضي لكل واحد منهما بيمينه والإقرار، وشهادة الصبيان، والقافة، وقُمْط الحيطان
(2)
، وشواهدها، واليد. فهذه هي الحجاج التي يقضي بها الحاكم؛ وما عداه لا يقضي به عندنا وفيها شبهات واختلاف بين العلماء»
(3)
.
لاحظ أنه ذكر القافة وقمط الحيطان واليد، وكل ذلك من باب العمل بالقرائن.
والحنفية الذين هم أضيق المذاهب في اعتبار القرائن، ترى محقق المتأخرين منهم يقول: «طريق القاضي إلى الحكم يختلف بحسَب اختلاف المحكوم به، والطريق فيما يرجع إلى حقوق العباد المحضة عبارة عن الدعوى والحجة، وهي إما البينة أو الإقرار أو
(1)
«إعْلام المُوَقِّعِين» (2/ 331).
(2)
الحبال من الليف تشد بها البيوت فإن تنازع الجيران على حائط ينظر إلى معاقدها فمن كانت من جهته فالحائط له.
(3)
«الفُرُوق مع هوامشه» (4/ 189).
اليمين أو النكول عنه أو القسامة أو علم القاضي بما يريد أن يحكم به أو القرائن الواضحة التي تصير الأمر في حيز المقطوع به»
(1)
.
ويحاول الجَصَّاص رحمه الله أن يُخَرِّج عملهم بالقرائن على أنه للترجيح بين أدلة متعارضة فيقول:
«
…
والعلامة ليست ببينة
…
وأما قول أصحابنا في الرجلين يدعيان لقيطا كل واحد يدعي أنه ابنه ووصف أحدهما علامة في جسده فإنما جعلوه أولى استحسانا من قبل أن مدعي اللقيط يستحقه بدعواه من غير علامة ويثبت النسب منه بقوله وتزول يد من هو في يده فلما تنازعه اثنان صار كأنه في أيديهما لأنهما قد استحقا أن يقضى بالنسب لهما لو لم يصف أحدهما علامة في جسده فلما زالت يد من هو في يده صار بمنزلته لو كان في أيديهما من طريق الحكم جميعه في يد هذا وجميعه في يد هذا فيجوز حينئذ اعتبار العلامة ونظيره الزوجان إذا اختلفا في متاع البيت لما كان لكل واحد يد في الجميع اعتبر أظهرهما تصرفا وآكدهما يدا
(2)
…
فهذه المواضع التي اعتبروا فيها العلامة إنما اعتبروها مع ثبوت اليد لكل واحد من المدعيين في الجميع فصارت العلامة من حجة اليد دون استحقاق الملك بالعلامة»
(3)
.
إننا لا نسلم بتوجيه الجَصَّاص رحمه الله، وذلك أن اليد قائمة لكل من الزوجين فلما تعارضتا تساقطتا، وحكم بالقرينة. وليست تطبيقات استعمال القرائن عند الحنفية محصورة في بضعة أمثلة بل هي كثيرة جدًّا منها: تجويزهم في حال ظهورِ أمارةٍ حبسَ
(1)
«حَاشِيَة ابن عابِدِين» (5/ 354).
(2)
فيجعل الأحناف ما يكون للرجال للرجل وما كان للنساء للمرأة.
(3)
«أحْكَام القُرآن» للجَصّاص (4/ 386).
المتهمِ بالقتل أو بالجرائم الأخرى؛ وللشخص الذي يُسلَّم بنتًا ليلة زفافه أن يجتمع بها باعتبار أنها مَنكوحته، ولو لم يشهد له شاهدان عدلان على ذلك؛ وإذا اختلف اثنان في مُلكية حائط فيحكم بالحائط لمن جذوعه موضوعة على ذلك الحائط؛ ويحق لمن شاهد فَلُوًّا يتبع فرس شخص، وهو يرضع من تلك الفرس أن يشهد أن ذلك الفَلُوَّ هو ملك صاحب الفرس؛ ولا تُسمَع دعوى من يرى قريبه يبيع مالا من آخر ويسكت، ومن يرى بيع أحد من الأجانب مالا ويشاهد تصرف المشتري فيه ويسكت؛ وللضيف أن يأكل من الطعام الذي وضع أمامه بلا إذن صريح
(1)
.
من أجل ذلك، جاء في «الموسوعة الفقهية» عن مذهب الحنفية:«ومما يؤخذ من كتبهم أنهم يعملون القرائن - إن اعتبروها عاملة - في خصوص حقوق العباد، ولا يعملونها في القِصاص والحدود، فاعتبروا مثلا سكوت البكر أو صمتها قرينة على الرضا، وقبض الهبة والصدقة بحضرة المالك مع سكوته إذنا بالقبض، ووضع اليد والتصرف قرينة على ثبوت الملكية، وقبول التهنئة في ولادة المولود أيام التهنئة المعتادة قرينة على ثبوت النسب منه، واعتبروا علامة الكنز، وقالوا إن كانت دالة على الإسلام كانت لقطة، وإن كانت دالة على الكفر ففيها الخمس»
(2)
.
قلت: فإن كان الحنفية - وهم أضيق المذاهب بصدد ما نحن فيه - يعملون بالقرائن في كل هذه الأمور، فلا تصح نسبة عدم العمل بالقرائن للقضاء الإسلامي بحال.
ومن ثم، فإن القول بحصر أدلة الإثبات في مطلق القضايا لا تصح نسبته للقضاء الإسلامي أيضًا. وإن الذين حصروا الأدلة قد اختلفوا فيما بينهم داخل المذهب الواحد
(1)
انظر «درر الحكام» لحَيْدَر (4/ 485 - 487).
(2)
«المَوْسُوعَة الفِقْهِيَّة» (33/ 158).
والخلاف بين المذاهب أوسع، فقد مر معنا قول القَرَافِيّ رحمه الله في الحِجاج وجعلها سبعَ عشرةَ وابن رُشْد رحمه الله يقول:«والقضاء يكون بأربعٍ: بالشهادة وباليمين وبالنكول وبالإقرار أو بما تركب من هذه»
(1)
.
وفي قواعد الفقه، ينقِل عن ابن نُجَيْم:«الحجة ما استدل به على صحة الدعوى وهي بينة عادلة أو إقرار أو نكول عن يمين أو بيمين أو قَسامة أو علم القاضي بعد توليته أو قرينة قاطعة كذا في الأشباه»
(2)
.
ولعله يُعتذَر عن ذلك بأنهم قصدوا بعض القضايا دون بعض أو أجملوا في مواضع تاركين التفصيل لأخرى، ولكن الذي لا يخفى أن القول بحصر أدلة الإثبات في كل القضايا بما شهد له الشرع نصًا أو استنباطًا محل نظر وليس عليه عملهم وإن صرح به البعض.
وقبل أن نشرع في بيان أدلة القائلين بحصر أدلة الإثبات وعدم اعتبار القرائن، نبين أن البعض حصر أدلة الإثبات، ولكن عمل بالقرائن حتى في الحدود كالمالكية، وذلك أنهم عملوا فيها بقضاء الصحابة-رضوان الله عليهم.
(1)
«بِدَايَة المُجْتَهِد» لابن رُشْد (2/ 346).
(2)
«قَوَاعِد الفِقْه» للمُجَدِّدِيِّ البَرَكْتِي (1/ 260).