الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: حكم تقديم العلف النجس أو المتنجس للحيوان
أولا: المُتَنَجِّس:
إن القائلين بجواز تقديم الطعام المتنجس دون النجس للحيوان هم الجمهور، قال النَّوَوِيّ:«لو عجن دقيقًا بماء نجس وخبزه، فهو نجس يحرم أكله، ويجوز أن يطعمه لشاة أو بعير أو بقرة ونحوها»
(1)
. وهذا الذي ذهب إليه النَّوَوِيّ وذكر أنه نص عليه الشافعي هو ما ذهب إليه الحنابلة
(2)
والحنفية
(3)
والمالكية
(4)
.
والمنع قول جماعة من أصحاب الحديث
(5)
، ورواية عن أحمد، إذ نقل عنه صاحب المُغْنِي رحمه الله المنع من الانتفاع بالزيت المتنجس
(6)
.
وذهب البعض إلى التفريق بين الماء المتنجس والزيت، فأباحوا الانتفاع بالأول دون الثاني
(7)
.
* واستدل الجمهور على الإباحة:
بما روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أَنَّ الناس نَزَلُوا مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْضَ
(1)
«المَجْمُوع» للنَّوَوِيّ (9/ 31).
(2)
«كشَّاف القِنَاع» للبُهُوتِيِّ (6/ 1951).
(3)
«بَدَائع الصَّنَائع» للكَاسَانِيّ (5/ 39).
(4)
«الجَامِع لأحْكَام القُرآن» (1/ 109) دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى.
(5)
«المَجْمُوع» للنَّوَوِيّ (9/ 91).
(6)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (9/ 340 - 341).
(7)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (9/ 341)، فيكون على مذهبه وقوع النجاسة فيما فوق القلتين من الماء لا يؤثر دون الزيت.
ثَمُودَ -الْحِجْرَ- فَاسْتَقَوْا من بِئْرِهَا وَاعْتَجَنُوا بِهِ فَأَمَرَهُمْ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُهَرِيقُوا ما اسْتَقَوْا من بِئْرِهَا وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ العَجِينَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا من البِئْرِ التي كانت تَرِدُهَا النَّاقَةُ»
(1)
.
ووجه استدلالهم هو أن هذا الماء وإن لم يكن نجسًا فحين كان ممنوعًا من استعماله أمر بإراقته وإطعام ما عجن به الإبل، قالوا: وكذلك ما يكون ممنوعًا منه لنجاسته
(2)
.
والصحيح أن هذا قياس مع الفارق، وإنما كان النهي عن ماء ثمود تنفيرًا للأصحاب من أحوال الكافرين وأعمالهم، وليس هذا المعنى قائمًا في الإبل، وذلك بخلاف النجاسات.
واستدل الحنفية القائلون بجواز الانتفاع بالزيت المتنجس بحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: «سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفَأْرَةٍ تقع في السمن أو الوَدَكٍ. فقال: اطْرَحُوهَا وَمَا حَوْلَهَا إنْ كان جَامِدًا. فقالوا: يا رسول الله فإِنْ كان مَائِعًا؟ قال: فَانْتَفِعُوا بِهِ وَلَا تَأْكُلُوهُ»
(3)
.
والمرفوع قد ضعفه أهل العلم، وإنما صحح البعض وقفه على ابن عمر رضي الله عنه، وقوله يستأنس به ولا يستدل، ما لم يكن إجماعًا منهم. والانتفاع ليس بالضرورة يشمل إطعام الدواب، بل الظاهر أنهم كانوا يقصدون بذلك الاستصباح وطلاء السفن، وبينهما وبين إطعام الدواب فارق لا يخفى.
(1)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى وإلى ثمود أخاهم صالحا (3/ 1237).
(2)
«سُنَن البَيْهَقِيّ» (1/ 235) كتاب الطهارة، باب الماء الدائم تقع فيه نجاسة وهو أقل من قلتين.
(3)
«سُنَن البَيْهَقِيّ» كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به (9/ 354)، وضعف المرفوع وصحح الموقوف على عبد الله بن عمر. وكذلك فعل أبو نُعَيْم في «حِلْيَة الأوْلِيَاء» (3/ 380). وضعفه ابن حزم في «المُحَلى» (1/ 143).
* ولقد استدل المانع من الانتفاع بالزيت المُتَنَجِّس بحديث مَعْمَر عن الزُّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله بن عبد الله بن عباس عن مَيْمُونَةَ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جَامِدًا فألقُوها وما حَوْلها وإن كان مَائعًا فلا تَقْرَبُوه»
(1)
.
وقالوا بأنه لما تنجس حرم الانتفاع به والمؤمن متعبد باجتناب النجاسات. ونقل النَّوَوِيّ في المَجْمُوع قول الخطَّابِيّ رحمه الله: «اختلف العلماء في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة فقال جماعة من أصحاب الحديث: لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَقْرَبُوه»
(2)
ثم عقب النَّوَوِيّ رحمه الله فقال: «وأن المذهب الصحيح جواز الاستصباح بالدُّهْن النجس والمتنجس»
(3)
.
قلت: هذا انتفاع بالإهلاك وليس بالإطعام لبهيمة مأكولة اللحم وبينهما فارق، ونحن هنا معنيون بالأخير.
* ومن ذهب إلى التفريق بين الماء المتنجس والزيت، احتج بأن الماء يدفع النجاسة عن نفسه لكونه في الأصل طهورًا
(4)
. ولقد أردت بإيراد هذا الخلاف بيان أن حكم علف الحيوان بالمتنجس لا يدخل فيه الشحم والدُّهْن المتنجس عند جماعة من أهل العلم، وهذا هو محل النزاع في علف الدواب بالبروتين الحيواني المتنجس منه والنجس.
(1)
«سُنَن النَّسَائيّ» كتاب الفرع والعتيرة، باب الفأرة تقع في السمن (7/ 178)، والحديث اختلف فيه، فقال البخاري: غير محفوظ، وقال الذهلي: محفوظ، «فَتْح البَارِي» (1/ 344)، حسنه النَّوَوِيّ في «الخلاصة» (1/ 182).
(2)
«المَجْمُوع» للنَّوَوِيّ (9/ 91).
(3)
المصدر السابق.
(4)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (9/ 341)، فيكون على مذهبه وقوع النجاسة فيما فوق القلتين من الماء لا يؤثر دون الزيت.
• والذي يظهر مما سبق أنه حتى مع القول بجواز الانتفاع بالمائع المتنجس، وهو مذهب ابن عمر والجمهور، فإنه لا ينبغي أن تطعمه الدواب المأكولة اللحم، وذلك:
1 -
لأنها محترمة، والفقهاء يمنعون من الاستجمار بجزء الحيوان.
2 -
ولمكان الضرر من إطعامها النجاسات، كما سيظهر من المطلب الخاص برأي الطب.
ثانيًا: النَّجِس:
أما إطعام الدواب النجاسات العينية، فأذن في ذلك المالكية، ونقل القُرْطُبِيّ
(1)
عن مالك: «في العسل النجس إنه تعلفه النحل»
(2)
. وإن كان الاستدلال بكلام مالك في العسل فيه نظر، لأنه متنجس لا نجس. وبالجواز قال أيضًا الحنفية إذا كانت النجاسة قليلة
(3)
، والحنابلة إذا لم يكن الحيوان سيذبح قريبًا
(4)
.
(1)
هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصَارِيّ الخَزْرَجِيّ الأندَلُسِيّ، القُرْطُبِيّ من كبار المفسرين صالح متعبد من أهل قرطبة، رحل إلى الشرق، واستقر بمنية ابن خصيب في شمالي أسيوط بمصر، وتوفي فيها سنة 671 هـ، من كتبه:«الجَامِع لأحْكَام القُرآن» ، و «قمع الحرص بالزهد والقناعة» ، و «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» ، و «التذكرة بأحوال الموتى وأحوال الآخرة» ، وكان ورعًا متعبدًا، طارحًا للتكلف. راجع ترجمته في:«الدِّيبَاج المُذْهَب» (1/ 317)، «نفح الطيب» (2/ 210).
(2)
«الجَامِع لأحْكَام القُرآن» (3/ 109).
(3)
«بَدَائع الصَّنَائع» للكَاسَانِيّ (5/ 39).
(4)
«كشَّاف القِنَاع» للبُهُوتِيِّ (6/ 1951).
* ومنع من ذلك بعض المالكية، فقال الخَرَشِيّ رحمه الله:«وأما النَّجِس، وهو ما كان عينه نجسة كالبول ونحوه فلا يجوز الانتفاع به»
(1)
. وفي «حَاشِيَة الصَّاوِيّ»
(2)
: «وأما نجس الذات فلا يجوز الانتفاع به بحال»
(3)
.
ويدخل في المانعين بطريق الأولى من تقدم أنهم منعوا من الانتفاع بالمتنجس، وهم جماعة من أهل الحديث ورواية عن أحمد. وهو اتفاق الحنابلة إذا كان الحيوان يذبح قريبًا أو يحلب
(4)
.
* وذهب الشافعية إلى كراهة ذلك، فقال النَّوَوِيّ بعد ما ذكر نص الشافعي على جواز إطعام المتنجس للدواب:«وفي فتاوى صاحب الشامل أنه يكره إطعام الحيوان المأكول النجاسة وهذا لا يخالف نص الشافعي في الطعام، لأنه ليس بنجس العين، ومراد صاحب الشامل نجس العين»
(5)
.
* والذي جوز تقديم ما هو نجس للحيوان، فإنما استدل:
بحديث بئر ثمود السابق.
وبأن الحيوانات لا تنفر من هذه النجاسات كما هو الحال في الدجاج المُخَلى.
(1)
«شرح الخَرَشِيِّ» (1/ 96).
(2)
هو: أحمد بن محمد الخَلْوَتِيّ، الشهير بالصَّاوِيّ، فقيه مالكي، نسبته إلى صاء الحَجَر في إقليم الغربية، بمصر توفي بالمدينة المنورة سنة 1241 هـ، من كتبه:«حَاشِيَة على تَفسِير الجَلالَيْن» ، وحواش على بعض كتب الشيخ أحمد الدَّرْدِير في فقه المالكية. راجع ترجمته في:«الأعلام» للزرِكلي (1/ 246)، «مُعْجَم المؤلفين» (2/ 111).
(3)
«حَاشِيَة الصَّاوِيّ= بلغة السالك» (1/ 59).
(4)
«كشَّاف القِنَاع» للبُهُوتِيِّ (6/ 195).
(5)
«المَجْمُوع» للنَّوَوِيّ (9/ 31).