الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك، فإن بعض ما كان متعذرًا في الأزمنة السابقة سار ميسورًا، ومن ذلك استيفاء القِصاص عن طريق الجراحين، فإنه يوسع دائرة الممكن في الاستيفاء.
وربما يؤدي تطور الطب إلى بعض النوازل التي تحتاج إعادة النظر في بعض ما استقر في كتب الفقه كعلامات الموت مثلًا، فمع وجود أجهزة الإنعاش الحديثة ظهرت قضية موت الدِّمَاغ، فهل ينضاف الموت الدِّمَاغي إلى علامات الموت المبثوثة في كتب الفقه؟
وفي بحثنا أيضًا نبين تلك المسائل التي قد يُظَن أو يُشاع أن الفتوى تغيرت فيها بسبب تقدم العلوم الطبية وليس الأمر كذلك، وكذلك نبين ما إذا كان تقدم العلوم الطبية عديم الأثر على المسألة محَل الخلاف أو لا يحسِم مادته.
أي المعلومات الطبية نقبل
؟
بقِي أن الأطباء يختلفون في تقديراتهم، وأن الفقهاء ينبغي أن يستوثقوا لفتواهم سيما في الأمور العامة، وإن كان ذلك لازمًا في وقائع الأعيان كذلك. ومن العجيب أن تجد بعض الفقهاء يتساهلون في قبول قول هذا الطبيب أو ذاك، والطب الآن يجعل رأي الخبير من الأدلة الضعيفة.
إن الفقه قد سبق الطب بقرون في ترتيب درجات قوة الدليل، فالقرآن والسنة مقدمان على غيرهما، والنص المجمع عليه مقدم على المختلف فيه، وعبارة النص مقدمة على دَِلالته (مفهوم الموافقة)، وتلك مقدمة على إشارته - عند غير الحنفية
(1)
- ثم تأتي دَِلالة الاقتضاء. ومفهوم المخالفة - عند من يعمل به - أنواع بعضها فوق بعض
(2)
.
(1)
فهم يقدمون إشارة النص على دلالته، لأن الإشارة مأخوذة من النظم فكانت من المنطوق المقدم على المفهوم. والجمهور على تقديم دلالة النص لأنها تفهم لغة منه، أما الإشارة فلا يدركها كل أحد لأنها تفهم من اللوازم البعيدة. انظر «أصول البَزْدَوِيّ» (1/ 120).
(2)
انظر «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء» لمصطفى الخِنّ (ص 127).
إن هذا التفصيل من جانب فقهائنا في درجات قوة الدليل قابله غياب شبه كامل لمثله عند الأطباء حتى زماننا هذا الذي بدأ الأطباء فيه يميزون بين أنواع الأدلة، ويرتبونها حسَب قوتها، فتراهم يقسمونها - على اختلاف في التقسيم - إلى أربع درجات، يجعلون رأي الخبير
(1)
في الدرجة الرابعة والأدنى منها. وهذا هو الرأي المبني على مُسلَّمات تشريحية أو وظيفية. أما الرأي غير المدعوم بشيءٍ، فليس دليلًا أصلًا.
ثم في الدرجة الثالثة تأتي الأدلة المبنية على دراسات الحالة الاستعادية المقارَنة
(2)
، والتي تؤخذ فيها عينة من المرضى وتقابل بعينة من الأصحاء مساوية في العوامل الأخرى سوى عين المرض المزمع دراسته. وفي هذه الدرجة أيضًا دراسات مجموعات الحالات المتشابهة
(3)
التي يتم فيها جمع بيانات عينة واسعة من المرضى بذات المرض والتأمُّل فيها وتحليلها من غير مقابلة مع عينة ضبط.
وفي الدرجة الثانية، الأدلة المبنية على دراسات كتائبية متابَعة
(4)
، والتي تتم فيها متابعة عينة من الناس، والتربص بحصول مرضٍ أو تغيرِ حالٍ فيها، ثم مقارنةُ الفريق الأول الذي مرِض بالثاني الذي لم يمرَض.
وفي الدرجة الأولى من القوة، تلك الأدلة المنبنية على دراسات التجارب العشوائية المقارنة
(5)
الجيدة
(6)
.
(1)
Expert Opinion
(2)
Retrospective Case Control Studies
(3)
Case Series Studies
(4)
Cohort Studies
(5)
Randomized Controlled Trials
(6)
فإن كانت دون المستوى المطلوب، انخفضت دلالتها لتحل في المرتبة الثانية.
أو التحليل البَعدِيِّ
(1)
لمجموعة من تلك الدراسات الجيدة
(2)
.
ومن المهم للفقيه أن يعلمه، أن الدليل في الطب كالفقه لا يؤخذ بمَعزِل عن بقية الأمور التي تشكل مجتمعة الدافع وراء التوصية (الحُكم) بفعل شيء أو تركه. ومن هذه الأمور، ثمن العلاج وآثاره الجانبية وقَبول المنظومة القيمية للمجتمع أو المجموعة المستهدَفة بهذا النوع من التدخل الطبي أو ذاك أو بهذه التوصيات أو تلك
(3)
.
إن هذا العرضَ السريعَ لما عليه الطب الحديث الآن رجوت منه إيقافَ القارئ على أن الطب كالفقه في العديد من الجوانب، وإن كان الفقيه لا يقنع بدَِلالة ضعيفة في بناء الحكم، أو أخرى مُعارَضة بما هو أقوى منها، فليسْع إلى الاستيثاق لحكمه بطلب المعلومة الطبية الصحيحة المستنِدة إلى الدليل القوي، لا مجرد قول فُلانٍ من الأطباء.
ولكنْ، كيف يمكن ذلك للفقيه؟ وهل تشترط له الدراية بالطب؟ ألا يكفيه الفقه على تشعبه وسعته؟ إن الجواب هو أن الفقيه ينبغي أن يدرك واقع المسألة بعينها التي يفتي فيها ويستفرغ الوُسْع في الإحاطة بها. وهو إذ يسأل الأطباء، ينبغي أن يكون عنده
(1)
Mata-analysis
(2)
انظر هذه التفصيلات وغيرها (بالإنجليزية) في:
Evidence Based Medicine overview of the main steps for developing and grading guideline recommendations [Journal] /auth.P.Abrams S Khoury، A.Grant//Prog Urol. - Paris: Prog Urol، 2007. - 17: Vol. 2007. - pp. 681 - 684.
(3)
للمزيد، انظر (بالإنجليزية):
Grading Strength of Recommendations and Quality of Evidence in Clinical Guidelines Report From an American College of Chest Physicians Task Force [Journal] /auth.American College of Chest Physicians Task Force//American College of Chest Physicians. - 2006. - 1: Vol. 129.
بعض الإدراك للقضية محَل البحث. وربما سأل الطبيب عن مدى الاتفاق والاختلاف حول ما يقرره كرأيٍ للطب، وكيف ثبَت للأطباء ما يدَّعونه. وربما يتخصص بعض الفقهاء في هذا النوع من الفقه المتعلق بالممارسات الطبية، فيكونوا حلقة وصل بين أهل الفقه وأهل الطب. إن هذا الأمر يكون مهمًا جدًا عند دراسة النوازل والحكم عليها.
* * *