الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الخلاف الفقهي على الجَوْف
اختلف فقهاؤنا رحمهم الله في عدة أمور متعلقة بالمُفْطِرات وترجع اختلافاتهم إلى أربعة محاور هي:
1 -
مفهومهم عن الجَوْف الذي يفسد الصيام بوصول الأعيان إليه.
2 -
المنافذ الموصلة إلى هذا الجَوْف.
3 -
الأعيان الواصلة إلى الجَوْف وما يفسد الصيام منها وما لا يفسده.
4 -
مسألة استقرار الداخل وفساد الصوم بما لم يستقر في الجَوْف مما دخل إليه.
الخلاف حول الجَوْف:
الجَوْف في اللغة:
جَوْف الإنسان بطنه؛ والأجواف جمعه؛ والأجوفان: البطن والفرج لاتساع أجوافهما؛ وقال أبو عبيد في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث «لا تَنْسَوا الجَوْفَ ومَا وَعَى» : أي ما يدخل فيه من الطعام والشراب. وقيل فيه قولان: قيل أراد بالجَوْف البطن والفرج معًا، كما قال:«إن أخوف ما أخاف عليكم الأجوفان» ، وقيل أراد بالجَوْف القلب وما وعى وحفظ من معرفة الله تعالى. والجائفة: الطعنة التي تبلغ الجَوْف، والتي تخالط الجَوْف، والتي تنفذ أيضا. والجَوْف: المطمئن من الأرض؛ وفي حديث خلق آدم عليه السلام: «فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك»
(1)
. والأجوف الذي له جَوْف، ولا يتمالك أي لا يتماسك
(2)
.
(1)
انظر «صَحِيح مُسْلِم» كتاب البر والصلة والآداب، باب خلق الإنسان خلقا لا يتمالك (4/ 2016).
(2)
انظر «مختار الصِّحَاح» للرَّازِيّ (1/ 50)، «لِسَان العَرَب» لابن مَنْظُور (9/ 34).
الجَوْف عند الفقهاء:
إنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ركن الصيام هو ترك إيصال العين الظاهرة إلى الجَوْف، ولم يرد في أحاديثه لفظ الجَوْف مقترنًا بالصيام أبدًا. ولكن الفقهاء رحمهم الله أرادوا وضع حد للمُفْطِرات فاستعملوا كلمة الجَوْف، ثم وقع بينهم رحمهم الله الاختلاف في طبيعة ذلك الجَوْف الذي ينتقض الصوم بوصول الأعيان إليه، فاختلفوا على قولين:
1 -
أن الجَوْف المقصود هو ما له قوة على تحليل الغذاء، وهو ظاهر كلام الحنفية وصريح قول المالكية وقول مرجوح عند الشافعية.
2 -
أن الجَوْف المقصود هو كل تجويف في جسم الإنسان سواءٌ كانت به القدرة على تحليل الغذاء أم لم تكن، وهذا هو الراجح عند الشافعية وهو قول الحنابلة.
وهذا عرض لأقوال أهل العلم مع بعض المناقشة:
الجوف
• ما له قوة على تحليل الغذاء (ظاهر كلام الحنفية وصريح قول المالكية وقول مرجوح عند الشافعية): وجعلوا للدماغ قدرة على التغذي بما دخل إليه، ففطروا بدخول الأعيان - أو بعضها - إليه.
• كل مجوف (الراجح عند الشافعية وهو قول الحنابلة): يشكل عليه قولهم في المثانة واختلافهم في قبل المرأة
أولًا: قول السادة الحنفية رحمهم الله:
(1)
.
لاحظ أنهم يعللون الإفطار بالوصول إلى الدِّمَاغ بكون الدِّمَاغ منفذًا للجَوْف لا بكونها جَوْفًا مستقلًا، وليس الدِّمَاغ منفذًا للجَوْف كما سبق في المقدمة الطبية.
والحنفية رحمهم الله لا يعتبرون مداواة الجائفة بالدواء اليابس مُفْطِرًا لأنه لا يصل للجَوْف في الأغلب عندهم، وكذلك دخول ما لا يستقر إلى الجَوْف لا يُفْطِر عندهم لأنه لا يحصل به معنى الأكل من تسكين الجوع
(2)
.
يتبين من ذلك كله أن الجَوْف المقصود عندهم هو ما يقدر على تحليل الغذاء والانتفاع به، وهو يطابق في العلوم الطبية الحديثة الجهاز الهَضْمِيّ أما كلامهم عن كون الدِّمَاغ منفذًا للجَوْف أو الأذن أو قُبُل المرأة، فهذا لا يعكر على استنتاجنا، فإنما ظنوا أن هذه المخارق تنفذ إلى الجهاز الهَضْمِيّ.
(1)
«بَدَائع الصَّنَائع» للكَاسَانِيّ (2/ 93).
(2)
المصدر السابق.
ثانيًا: قول السادة المالكية رحمهم الله:
قال الدَّرْدِير
(1)
رحمه الله: «و صحته [أي الصوم] بترك إيصال متحلل أي مائع من منفذ عال أو سافل والمراد الوصول ولو لم يتعمد ذلك
…
أو غيره أي غير المتحلل كدرهم من منفذ عال فقط بدليل ما يأتي، على المختار عند اللَّخْمِيّ
(2)
، لمَعِدَة متعلق بإيصال وهي من الآدمي بمنزلة الحوصلة للطير والكَرِش للبهيمة بحُقْنَة بمائع أي ترك إيصال ما ذكر لمَعِدَة بسبب حُقْنَة من مائع في دبر أو قُبُل امرأة لا إحليل. واحترز بالمائع عن الحُقْنَة بالجامد، فلا قضاء ولا فتائل عليها دهن، وقوله أو حلق معطوف على مَعِدَة أي ترك وصول المتحلل أو غيره لحلق ولما قيد الحُقْنَة بالمائع عُلم أنه راجع للمتحلل، ولما أطلق في الحلق علم أنه راجع لمتحلل أو غيره، لكن بشرط ألَّا يَرُدَّ غير المتحلل، فإن رده بعد وصوله الحلق فلا شيء فيه فعلم أن وصول شيءٍ للمَعِدَة من الحلق مطلقًا أو من منفذٍ أسفلَ بشرط أن يكون مائعا أو للحلق كذلك مُفْطِر»
(3)
.
ولعل المالكية رحمهم الله هم الأصرح في بيان أن الجَوْف المقصود هو المَعِدَة، لأنهم فهموا أنها الجزء من الجهاز الهَضْمِيّ القادر على تحليل الغذاء.
(1)
هو: أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد العَدَوِيّ، الشهير بالدَّرْدِير، فاضل من فقهاء المالكية، ولد في بني عدي بمصر سنة 1127 هـ، وتعلم بالأزهر، وتوفي بالقاهرة سنة 1201 هـ، من كتبه: أقْرَب المَسَالِك لمَذْهَب الإمَام مَالِك، والشَّرْح الكَبِير على مُخْتَصَر خَلِيل. راجع ترجمته في:«الأعلام» للزرِكلِيّ (1/ 244)، «مُعْجَم المؤلفين» (2/ 67).
(2)
هو: أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللَّخْمِيّ، فقيه مالكي، له معرفة بالأدب والحديث، قيرواني الأصل، نزل سفاقس وتوفي بها سنة 478 هـ، صنف كتبا مفيدة، من أحسنها: التبصرة تعليق كبير على المُدَوَّنَة في فقه المالكية، أورد فيه آراء خرج بها عن المذهب وله فضائل الشام. راجع ترجمته في:«الأعلام» للزرِكلِيِّ (4/ 328).
(3)
«الشَّرْح الكَبِير» للدَّرْدِير (1/ 523 - 524).
أما الكلام عن الوصول للحلق عندهم وعند غيرهم من الفقهاء، فلأن الوصول إلى الحلق يقتضي بالضرورة الوصول إلى المَعِدَة إلا في حالة غير المتحلل الذي يرُدُّه من حلقه كما وضحوا.
أما قولهم أو قُبُل امرأة، فلا يصح، لأنه لا يؤدي إلى المَعِدَة كما ذكروا.
بقي أنه- كما تقدم في المقدمة الطبية - ليست المَعِدَة فقط القادرة على تحليل الغذاء، بل والأمعاء الدقيقة وكذلك الغليظة إلى حد ما، فإنها تمتص الأملاح والجلوكوز.
ثالثًا: قول السادة الشافعية رحمهم الله:
(1)
.
ويظهر من كلامه رحمه الله اختلاف الشافعية وأن بعضهم يرجح قول المالكية في اعتبار قوة التحليل في الجَوْف المقصود.
أما توجيهه للقول الذي رجحه وعده قول الأكثرين بجعلهم الحلق كالجَوْف ففيه نظر، فإنه لا يخفى أن ما يصل إلى الحلق يصل إلى المَعِدَة، فإن لم يصل ففي إيصال عينٍ إلى الحُلْقُوم شبهٌ بصورة الأكل واضح.
(1)
«رَوْضَة الطَّالِبِين» للنَّوَوِيّ (2/ 356).
رابعًا: قول السادة الحنابلة رحمهم الله:
قال الرحيباني رحمه الله
(1)
(2)
.
وتراه هنا يعلل الفطر بوصول الأعيان إلى الدِّمَاغ بكون الواصل إلى الدِّمَاغ يُغَذِّيه كجَوْف البدن - وهو غير صحيح- فهل هذا يعني أن الحنابلة يقصدون بجَوْف البدن ما له قدرة على تحليل الطعام؟
(1)
هو: مصطفى بن سعد بن عبده السُّيُوطِيّ الرَّحِيبَانِيّ (ضبطها الأكثر الرَّحِيباني، وضبطها محقق «السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة» عبد الرحمن العُثَيْمِين بضم الراء وفتح الحاء.)، الدِّمَشْقِيّ، فرضي كان مفتي الحنابلة بدمشق، ولد في قرية الرحيبة من أعمالها سنة 1160 هـ، وتفقه واشتهر وولي فتوى الحنابلة، وتوفى بدمشق سنة 1243 هـ، له مؤلفات، منها:«مَطَالِب أُولي النُّهَى في شرح غاية المنتهى» في فقه الحنابلة، و «تُحْفَة العباد فيما في اليوم والليلة من الأوراد» جمعه من الأصول الستة، وتحريرات وفتاوى. راجع ترجمته في:«الأعلام» للزرِكلِيِّ (7/ 234)، «مُعْجَم المؤلفين» (12/ 254).
(2)
«مَطَالِب أُولي النُّهَى» للرَّحِيباني (الرُّحَيباني)(2/ 191). وما بين الأقواس لصاحب «غاية المنتهى» مَرْعِيّ بن يوسف الكَرْمِيّ.