الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المناقشة والترجيح:
الحق أن القول بتحريم أكل الجلالة وشرب ألبانها، متى كثرت النجاسة في طعامها، هو الأقرب للدليل. كيف لا، والنهي عنها قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحًا من طريق جماعة من أفقه أصحابه وأعلمهم كابن عمر وابن عمرو وابن عباس وجابر رضي الله عنهم جميعًا.
وظاهر النهي للتحريم، ولم يوجد صارف، وما استدلوا به من التعليل على عدم التحريم لا ينتهض لمعارضة تلك الأحاديث الصريحة الصحيحة، وما نراهم تركوها إلا لعدم ثبوتها عندهم.
أما قولهم رحمهم الله بأن العلف الطاهر إذا صار في كَرِشها تنجس، فتعقب بأن العلف الطاهر إذا تنجس بالمجاورة، جاز إطعامه للدابة، لأنها إذا أكلته لا تتغذى بالنجاسة وإنما تتغذى بالعلف بخلاف الجلالة
(1)
. وقد يجاب بأن الإنسان إنما يأكل الطعام الطاهر ثم ينزل إلى معدته فيخالط النجاسات فهل يقال إنه لا فرق بين تناول النجاسات والطيبات، فإن قيل إنما نهي الإنسان عن ذلك قلنا إن الشارع الذي نهى الإنسان عن أكل النجاسات نهاه عن أكل الجلالة.
أما ما قالوه بأن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه، وكذلك آكل الخنزير، فالجواب ممن اعتبر الأكثر، أن الخمر والخنزير لا يكونان في العادة أكثر غذائه
(2)
. وكذلك فنحن لا نسلم بنجاسة الخمر الحسية. وقد يكون الحكم بطهارة الكفار رَغم تناولهم النجاسات رفعًا للحرج، فالمسلمون بحاجة إلى التعامل معهم والبيع والشراء
(1)
«فَتْح البَارِي» لابن حَجَر (9/ 648).
(2)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (9/ 330).
والكراء لهم ومنهم. والأصل في النهي عن أكل لحوم الجلالة لمكان الضرر، وجاء منع الركوب، إن صح، تابعًا لذلك لزيادة التنفير منها، وقد يكون فيه ضرر أيضًا. وفي الإنسان من القوة الدافعة للآفات ما ليس في الحيوان. الفرق إذًا بين حكم النهي عن أكل لحم الجلالة ولمس الكافر ظاهر، فلا يسلم اعتراضهم بهذا.
وأما قولهم ولو نجست الجلالة لما طَهُرَت بالحبس
(1)
فلا نسلم لهم به، فإن الحبس قد صح عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج ابن أبي شَيْبَة عن ابن عمر «أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا»
(2)
. وما فعلوه إلا لمعنًى رأوه.
وقد يسوغ لنا أن نقول إن الحبس - مع كونه حبسًا عن النجاسات - قد يؤدي إلى ظهور المرض على الحيوان فيقتله فيصير ميتة لا ينتفع بها، وكذلك فإن صاحبه لا يستطيع المبادرة إلى ذبحه ولَمَّا يطهر بعد.
ومن معهود الشريعة مراعاة ما يتغذى به الحيوان في الحكم عليه، ألا ترى أن الخِنزير يتغذى على القاذورات وهو محرم وقد نهى الشارع عن آكلات اللحوم
(3)
، «فصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير»
(4)
. فلا عجب إذًا من المنع من أكل الجلالة وشرب ألبانها.
(1)
«المُغْنِي» لابن قُدامة (9/ 330).
(2)
«مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة» : كتاب العقيقة، باب في لحوم الجلالة (5/ 577)، وصححه الحافظ في «فَتْح البَارِي» (9/ 648).
(3)
إلا ما جاء من خلاف في الضبع ولكن القاعدة هي تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب في الطير. أما الخلاف في الكلب فضعيف.
(4)
«صَحِيح مُسْلِم» كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (3/ 1533). أما الضبع، فإنه جائز عند الحنابلة دون الجمهور، فإن صح قولهم لكان على خلاف القياس، فلا يقاس عليه. أما الخلاف في الكلب فضعيف.
وقبل ذلك كله، فقد صح النهي، وسواءٌ كان الحيوان نجسًا أم لا، فإن أكله ممنوع، وكذلك شرب لبنه.
ويضاف إلى كل ما تقدم دليل من الأصول. وهو أنه عند تعارض الحاظر والمبيح في باب الذبائح والصيد قدمنا جانب الحظر على جانب الإباحة.
لقد استدل العلماء رحمهم الله على هذه القاعدة النفيسة بما رواه مسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال:«إذا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عليها فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ وَإِنْ قَتَلْنَ إلا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَإِنْ أَكَلَ فلا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنما أَمْسَكَ على نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَطَهَا كِلابٌ من غَيْرِهَا فلا تَأْكُلْ»
(1)
.
فانظر - رحمك الله- كيف جعل صلى الله عليه وسلم الاحتمال «إني أخاف» كافيًا لتغليب المنع.
* * *
(1)
«صَحِيح مُسْلِم» كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة (3/ 1529).