الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حكم الإجهاض
لقد فرق جمهور فقهائنا رحمهم الله بين الإجهاض قبل تمام أربعة أشهر على الحمل وبعدها. وتفريقهم راجع إلى ظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه:
(1)
.
[14]
أشعة صوتية للجنين في بطن أمه
(1)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
…
} (6/ 2713).
ولقد أشكل على أهل العلم من قديم التعارض بين ظاهر هذه الرواية وروايات وأحاديث أخرى عن أنس بن مالك وحُذَيفة بن أَسِيد رضي الله عنهما، ولكن لعل قوة سند هذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه والتي جعلت البخاري لا يذكر غيرها - مع جلالة قدر هذا الصحابي وسعة علمه وقوة حفظه وحسن فقهه جعل هذا الحديث هو العمدة التي يُتَأَوَّل لها كلُّ نصٍّ آخر. ولقد ذهب العلماء مذاهب شتى في الجمع، نفصلها في حينها، ولكنهم كانوا ينطلقون من هذه الرواية ويعودون إليها.
• والذي استجد هو أن المعارف الطبية الحديثة تفيد أن مرحلة التخليق في الجنين تنتهي عند نهاية الأسبوع الثامن لتبدأ مرحلة النمو. ولقد يسرت الأجهزة الحديثة مثل الأشعة الصوتية على الأطباء متابعة مراحل تكون الجنين داخل الرحم، وهم يختلفون في أشياء وتفاصيل كثيرة إلا أنهم متفقون على أن تخليق الأعضاء ينتهي بانتهاء المرحلة الجنينية
(1)
عند نهاية الأسبوع الثامن.
وربما يتبادر إلى الذهن عدم وجود الإشكال لأن قضية نفخ الروح في الجنين قضية غيبية لا دخل للطب بها، فإن الطب الحديث لا يتناول الروح من قريب أو بعيد ولا ذكر لها في مراجعه، فإنه يحدد أن موضوعه هو بدن الإنسان. ولعل هذا حق، ولكن الإشكال في حديث بن مسعود رضي الله عنه هو في وصف الجنين بالنطفة في الأربعين الأولى والعلقة في الثانية والمضغة في الثالثة، بينما يكون في الثانية قد تكونت عظامه وفي الثالثة قد تميزت أصابع يديه ورجليه؛ وليس الأمر عندئذ مما يشاهد فقط عن طريق الأشعة الصوتية، بل يشاهد بالعين المجردة عند حدوث السقط كما أشار إليه ابن الهُمَام
(2)
رحمه الله حيث قال:
(1)
Embryogenesis
(2)
هو: كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السِّيواسِيّ الإسكندري، المعروف بابن الهُمَام، إمام من علماء الحنفية، عارف بأصول الديانات والتفسير والفرائض والفقه والحساب وغيرها، أصله من سيواس، ولد بالإسكندرية سنة 790 هـ، ونبغ في القاهرة، وأقام بحلب مدة، وجاور بالحرمين، ثم كان شيخ الشيوخ بالخانقاه الشيخونية بمصر، وكان معظمًا عند الملوك وأرباب الدولة، توفي بالقاهرة سنة 861 هـ، من كتبه:«فَتْح القَدِير في شرح الهِدَايَة» و «التحرير» في أصول الفقه. راجع ترجمته في: «الضوء اللامع» (2/ 201)، «شَذَرَات الذَّهَب» (4/ 298).
(1)
.
وربما أجاب البعض بعدم وجود التعارض بين كون الجنين علقةً ووجود العظام فيه، فإن كُنْه النطفة والعلقة والمضغة التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالضرورة هو ذات ما يعرف به الأطباء المعاصرون النطفة والعلقة والمضغة. بل ربما قال البعض إن المتحمسين من أطباء المسلمين سحبوا هذه الاصطلاحات على مراحل معينة لنمو الجنين توصل إليها العلم الحديث لإثبات الإعجاز في القرآن والسنة. وهذا وإن كان بعيدًا لأن هذه الكلمات لها مدلولات واضحة في اللغة العربية مما يجعل وصف الجنين الذي تميزت أطرافه من ذراعين ورجلين بل وأصابعهما بأنه علقة أو حتى مضغة بعيدًا، ولكن يمكن الدفع - مع شيء من التكلف - بأن هذه الأسماء التي أطلقها الوحي لها مدلولات غير التي يفهمها الأطباء. ولكن تبقى المشكلة الأكبر هي الجمع بين هذه الرواية وروايات أخرى في الصحيح بل والقرآن نفسه.
من هنا كانت الحاجة إلى إعادة النظر والتأمل في الفهم الشائع لهذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه الذي ترتبت عليه أحكام في الإجهاض والعتق وغيرهما.
(1)
«شَرْح فَتْح القَدِير» لابن الهُمَام (3/ 401 - 402).
وفي هذا المبحث، أمهد في المطلب الأول بالكلام عن مراحل تخلق ونمو الجنين في بطن أمه كما يراها الأطباء، ثم أذكر في المطلب الثاني أقوال أهل العلم في حكم الإجهاض، وبعدها أناقش في المطلب الثالث أقوال المعاصرين عن بدء الحياة الإنسانية ونفخ الروح، ثم أرجح ما ترجح منها وأبين أثر ذلك على الفتوى، وأورد بعد ذلك فائدة عن أثر تطور الطب على حكم العدوان على الجنين في بطن أمه.
* * *