الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
الترجيح:
إن الحق الذي ينبغي المصير إليه، فيما أرى، أن المراحل الثلاث تنتهي في الأربعين الأولى وبذلك يمكن الجمع من غير تكلف بين خبر ابن مسعود وخبر حذيفة وظاهر القرآن الذي يقضي بأن العظام تخلق بعد مرحلة المضغة.
ولكن هل هذا يعني بالضرورة أن الروح تنفخ بعد الأربعين الأولى؟ الجواب لا، فإنه لا دليل على ذلك سوى تلك الرواية عن حذيفة عند ابن أبي عاصم في «السنة» . وليس لفظ حديث ابن مسعود عند البخاري أولى بالشذود من هذه الرواية.
يبقى أنه ما من دليل من القرآن والسنة على كون نفخ الروح بعد الشهر الرابع إذا فهمنا حديث ابن مسعود بما رجحنا من أن الأربعينات الثلاثة إنما هي أربعون واحدة. ولكن الحق أن هناك من نقل إجماع الأمة على كون نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يومًا.
• ذكر القُرْطُبِيّ رحمه الله في تفسيره: «لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس»
(1)
.
• وقال العيني
(2)
رحمه الله: «واتفق العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر
(1)
«أحْكَام القُرآن» للقُرْطُبِيّ (12/ 8).
(2)
هو: بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد العَينيّ الحنفي مؤرخ، علامة، من كبار المحدثين أصله من حلب، ومولده في عينتاب سنة 762 هـ وإليها نسبته، وولي في القاهرة الحسبة وقضاء الحنفية ونظر السجون، ثم صرف عن وظائفه، وعكف على التدريس والتصنيف إلى أن توفي بالقاهرة سنة 855 هـ، من كتبه:«عُمْدَة القَارِي في شرح البخاري» ، و «مغاني الأخيار في رجال معاني الآثار» في مصطلح الحديث ورجاله، و «العلم الهيب في شرح الكلم الطيب» ، و «نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار» ، و «البناية في شرح الهِدَايَة» في فقه الحنفية. راجع ترجمته في:«البدر الطالع» (2/ 294)، «الضوء اللامع» (10/ 131).
ودخوله في الخامس»
(1)
.
• وفي «الديباج على مسلم» ، نقل عن النَّوَوِيّ رحمه الله:«وظاهر هذا الحديث إرساله بعد مائة وعشرين يوما، وفي الروايات بعده أنه بعد أربعين أو بضع وأربعين ليلة، وهي مؤولة بما يشار إليه لاتفاق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر»
(2)
.
• وقد نقل ابن حَجَر رحمه الله عن الفاضل علي بن المُهَذَّب الحموي الطبيب رحمه الله قوله: «واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر»
(3)
.
• ونقل رحمه الله كذلك عن القاضي عِياض رحمه الله قوله: «ثم يكون للملك فيه تصور آخر وهو وقت نفخ الروح فيه حين يكمل له أربعة أشهر كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر»
(4)
.
• وقال رحمه الله: «قوله ورد في الخبر أن الولد إذا بقي في بطن أمه أربعةَ أشهر نفخ فيه الروح متفقٌ عليه مجمعٌ بين أهل الحديث على صحته من حديث زيد بن وَهْب عن ابن مسعود حدثني الصادق المصدوق إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ
…
الحديث»
(5)
.
وهذا إجماع نقله غير واحد من المحققين، فلا نجد مساغًا لمخالفته، سيما ونحن لا نجد من صرح بمخالفته من المتقدمين، بل إن ابن الزَّمْلَكانِيّ الذي انتصر لانتهاء المراحل الثلاث في الأربعين الأولى لم يقل إن نفخ الروح يكون قبل أربعة الأشهر.
(1)
«عُمْدَة القَارِي في شرح صَحِيح البُخَارِيّ» للعَينِيّ (3/ 293).
(2)
«الدِّيباج على مُسلِم» للسُّيُوطِيّ (6/ 6).
(3)
«فَتْح البَارِي» (11/ 481).
(4)
«فَتْح البَارِي» لابن حَجَر (11/ 484).
(5)
«تَلْخِيص الحَبِير» لابن حَجَر (2/ 115).
فإن قيل كيف نقبل هذا الإجماع ومستنده على غير ما فهمه الجمهور وأدى إلى هذا الإجماع؟ كان الجواب بأن الإجماع نصي وغير نصي، وكلاهما إجماع مقبول، وإن لم يعلم المستند من النص، فإن الأمة معصومةٌ بمجموعها.
* وليس هذا الحديث هو الدليل الأوحد على نفخ الروح بعد أربعة الأشهر، وإن كان الوحيد بهذه الصحة والصراحة، ولكن هناك أدلة أخرى منها:
1 -
إشارة القرآن:
فإن الله تعالى يذكر أن نفخ الروح إنما يكون بعد التسوية فيقول: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9].
فالنفخ ينبغي ألا يكون إلا بعد التسوية، وكما ذكر العيني رحمه الله:«بعد تمام التصوير»
(1)
.
ولا شك أن التسوية تكون بعد خلق العظام واللحم ليصلح الجسم لأن يكون خلقًا آخر كما قال الله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
وجمهور أهل التفسير على أن المقصود بإنشائه خلقًا آخر هو نفخ الروح
(2)
. ومن الطريف أن ابن حَزْم رحمه الله بدأ بهذه الآية لما أراد أن يستدل على كون نفخ الروح إنما يكون بعد تمام أربعة الأشهر
(3)
.
(1)
«عُمْدَة القَارِي» للعيني (3/ 293).
(2)
انظر «جَامِع البَيَان عن تَأوِيل آيِ القُرآن» للطَّبَرِيّ (18/ 9)، «تفسير القرآن» للسَّمْعَانِيّ (3/ 467).
(3)
«المُحَلَّى» لابن حَزْم (9/ 187).
ولو كانت مرحلة المضغة تنتهي عند المائة والعشرين كما هو ظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه لكان نفخ الروح سابقًا لتمام التسوية وخلق العظام واللحم، فلزم أن يكون هناك مدة بين انتهاء مرحلة المضغة والتسوية التي يحصل بعدها النفخ.
2 -
ولقد جاءت عدة آثارٍ عن الصحابة والتابعين ذكروا فيها أن نفخ الروح يكون بعد المائة والعشرين، ولا يقولون في ذلك بالاجتهاد.
أ- ففي «جامع العلوم والحكم» : «فأما نفخ الروح فقد روي صريحا عن الصحابة رضي الله عنهم أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود فروى زيد بن علي عن أبيه عن علي قال: «إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فينفخ فيها الروح في الظلمات فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]» خرجه ابن أبي حاتم وإسناده منقطع. وخرج اللالَكَائِيّ
(1)
بإسناده عن ابن عباس قال: «إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرًا ثم نفخ فيه الروح ثم مكثت أربعين ليلة ثم بعث إليها ملكًا فنقفها في نقرة القفا وكتب شقيًّا أو سعيدًا» وفي إسناده نظر»
(2)
.
ب- وعن سعيدِ بن الْمُسَيَّبِ رحمه الله في السقط إذَا وَقَعَ ميِّتا قال: «إذَا نُفِخَ فيه الرُّوحُ صُلِّيَ عليه وَذَلِكَ لأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ»
(3)
.
(1)
هو: أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطَّبَرِيّ الرَازِيّ اللالَكَائِيّ، حافظ للحديث، من فقهاء الشافعية من أهل طبرستان، استوطن بغداد، وخرج في آخر أيامه إلى الدينور فمات بها كهلًا سنة 418 هـ، قال الزبيدي: نسبته إلى بيع اللوالك التي تلبس في الأرجل، على خلاف القياس له:«شرح السنة» وكتاب في السنن، و «أسماء رجال الصحيحين». راجع ترجمته في:«السِّيَر للذَّهَبِيّ» (17/ 419)، «طَبَقَات الشَّافِعِيَّة» لابن قاضي شُهْبَة (2/ 197)، «شَذَرَات الذَّهَب» (2/ 211).
(2)
«جامِع العُلوم والحِكَم» لابن رجب (1/ 52).
(3)
«مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة» كتاب الجنائز، باب ما قالوا في السقط من قال يصلى عليه (3/ 10).
وهذه الآثار، وإن كانت لا تخلو في أكثرها من مقال، إلا أنها تصلح مجتمعة للاعتضاد.
3 -
والدليل من المعقول على أن الروح تنفخ بعد المائة والعشرين يومًا هو ما تقدم معنا في المقدمة الطبية من أن المرأة تشعر بحركة الحمل عند الأسبوع الثامن عشر (أو ستة وعشرين ومائة يوم (126) من الإخصاب). وعند نهاية العشرين (140 يومًا من الإخصاب)، يكون قد تم تكوين وتمايز منطقة المهاد الهامة جدًّا في الدِّمَاغ، ويكتسب الجنين السمع والقدرة على التكيف. وهذا هو الحد الأدنى الذي يمكن أن يعيش الجنين عنده خارج الرحم.
• إن القول بالتفريق بين مراحل التخليق الثلاث ونفخ الروح هو الأظهر لي من حيث قوة الأدلة والسلامة من المعارضة.
ولعل ابن عَابِدِين رحمه الله قد أشار إلى هذا في حاشيته حيث قال: «وعبارته في عقد الفرائد، قالوا: يباح لها أن تعالج في استنزال الدم ما دام الحمل مضغة أو علقة ولم يخلق له عضو وقدروا تلك المدة بمائة وعشرين يوما، وإنما أباحوا ذلك لأنه ليس بآدمي كذا في النهر. أقول: لكن يشكل على ذلك قول البحر: إن المشاهد ظهور خلقه قبل هذه المدة وهو موافق لما في بعض روايات الصحيح «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة
…
» وأيضا هو موافق لما ذكره الأطباء فقد ذكر الشيخ داود في «تذكرته» أنه يتحول عظاما مخططة في اثنين وثلاثين يوما إلى خمسين ثم يجتذب الغذاء ويكتسي اللحم إلى خمس وسبعين ثم تظهر فيه الغاذية والنامية ويكون كالنبات إلى نحو المائة ثم يكون كالحيوان النائم إلى عشرين بعدها فتنفخ فيه الروح الحقيقية الإنسانية. نعم نقل بعضهم أنه اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر أي عقبها كما صرح به جماعة
…
ولا ينافي ذلك ظهور الخلق قبل ذلك لأن نفخ الروح إنما يكون بعد الخلق»
(1)
.
(1)
«حَاشِيَة ابن عابِدين» (1/ 302).
• تبين مما سبق أن نفخ الروح يكون بعد المائة والعشرين على الأظهر. لذا فإن التطور في المعارف الطبية لن يؤدي إلى تغير كبير في الفتوى، وإن غير في فهمنا لمراحل التخليق ورجح ظاهر حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم رحمه الله على ظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند البخاري رحمه الله الذي ينبغي أن يُردَّ فهمُه إلى لفظه عند مسلم. ولكنَّ تطور هذه العلوم وإدراكَ المعاصرين لحقيقةِ مراحلِ التخليقِ من خلالها قد أدى إلى نوعٍ من زيادة التحفظ في إباحة الإجهاض حيث إنه من الواضح أن المعاصرين أكثر تحفظًا من المتقدمين بهذا الصدد.
* * *