الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستحب
(1)
ولكنْ قال النَّوَوِيّ «وإن ترك التداوي توكلا فهو فضيلة»
(2)
. وصرح أحمد بأن تركه توكلا أفضل مع الإقرار بجوازه، وعلى ذلك مذهبه
(3)
.
أما القول بالوجوب، فإليه ذهب كثير من المعاصرين، وهو قول عند الحنابلة
(4)
ونقله ابن تَيمِيَّة وجهًا عن أحمد
(5)
وبه يقول بعض الشافعية
(6)
عند العلم بحصول الشفاء، ويذكره بعض المالكية احتمالًا
(7)
.
وفي السطور الآتية نناقش أدلة الفريقين.
*
أدلة عدم الوجوب:
1 -
ما رواه ابن عباس رضي الله عنه: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يَشْفِيني. فقال: «إن شئتِ دعوتُ الله فشفاك، وإن شئت صَبَرْتِ ولك الجنة. قالت: يا رسول الله أَصْبِر»
(8)
.
ومحل الشاهد أنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين طلب الشفاء بدعوته والصبر على المرض، ويذكر بعض القائلين بعدم الوجوب أنه أقوى ما في الباب في الدلالة على عدم وجوب
(1)
«نهاية المُحْتاج» للرَّمْلِيّّ (3/ 19).
(2)
«المَجْمُوع» للنَّوَوِيّ (5/ 96).
(3)
«مَطَالِب أُولِي النُّهَى» للرَّحِيباني (الرُّحَيباني)(1/ 834).
(4)
«الإنْصَاف» للمِرداوِيِّ (2/ 463)، «الفُرُوع» لابن مُفْلِح (2/ 131).
(5)
الطب النبوي للذَّهَبِيّ 221. نقلا من المسائل الطبية المستجدة للنتشة (ص 32).
(6)
«تُحْفَة المُحْتاج» للهَيتَمِيّ (3/ 183).
(7)
قال الصَّاوِيّ في «بلغة السالك» : «و يجوز التداوي وقد يجب» . «بلغة السالك» (4/ 770)، طبعة دار المعارف.
(8)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب المرضى، فضل من يصرع (5/ 2140).
التداوي، ولا نرى أنه يفيد جواز ترك التداوي على الإطلاق، لأنه صلى الله عليه وسلم ربما أراد أن يدخر لها الدعوة لأمر أعظم من الشفاء كدخول الجنة. وكذلك، فإن هناك فرقًا بين طلب الدعاء من الغير والتداوي، فالأخير من الأسباب المادية التي أمرنا أن نتعاطى معها لدفع الضرر، ومتى غلب على الظن اندفاعه بها لزمت. نعم، دعاؤه صلى الله عليه وسلم أقوى من كل دواء، ولكن لو فتح الباب واسعًا، لَطَلَبَ كل أحد الدعاء منه في حياته بالشفاء والثراء وغير ذلك، ولكان الناس أمة واحدة على الإيمان، ولما كان مجتمع المدينة مجتمعًا بشريًّا يصلح لأن يكون أسوة لمجتمعاتنا وأفراده قدوة لأفرادنا في كل ما يعتريهم من أحوالٍ كالسرور والهم واليسر والعسر والصحة والمرض.
القصة إذًا محتملة لوجوه، وتطرق الاحتمال القوي يكفي لإسقاط الاستدلال بوقائع الأعيان، ونحن نرى هنا احتمالات قوية، ولذا لا أرى أن يستدل بها على جواز ترك التداوي بإطلاق، وإن كان فيها مُتمسَّك لمن يمنع من وجوب التداوي بإطلاق.
2 -
ترك كثير من السلف للتداوي من غير إنكار عليهم، قال الإمام ابن تَيمِيَّة رحمه الله:«ولأن خلقًا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون بل فيهم من اختار المرض كأبي بن كعب وأبي ذر ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي»
(1)
.
وعدم إنكار الصحابة على بعضهم ترك التداوي دليل على عدم وجوبه. ولعل ذلك إن جاز من الصحابة في زمانهم، فلا ينبغي أن يجوز في زماننا. وذلك للفرق بين الدواء في زمانهم وزماننا، فإنه لا ينكر عاقل ما صار إليه الطب في زماننا من تقدم هائل، حتى يمكن أن نقطع بأن هذا الدواء ينفع هذا المرض
(2)
بإذن الله، كما يقطع
(1)
«مَجْمُوع الفَتَاوَى» لابن تَيمِيَّة (4/ 265).
(2)
من أمثلة ذلك بعض الأمراض الخمجية في استجابتها للمضادات الحيوية وكذلك استجابة الربو الصدري لموسعات الشعب. ولكل قاعدة شواذ ولكن لا عبرة بالنادر.
السكين اللحم وتحرق النار الخشب. لذا قال البَغَوِيّ رحمه الله: «إذا عُلِم الشِّفاءُ في المُداواة وَجَبَت»
(1)
.
نعم هذا غير مطرد في كل الأمراض والأدوية، ولكن متى حصلت غلبة الظن بنفع الدواء المعين المأمون من مرض مضر بالنفس أو الغير، لم يجز في دين الإسلام -القائم في تشريعاته على جلب المصالح ودفع المفاسد- ترك التداوي به.
ويبقى ترك الصحابة للتداوي من غير نكير منهم على بعض دليلًا على جواز ترك التداوي في بعض الحالات لا كلها كما سنبين.
3 -
قولهم أن ترك التداوي أفضل لأنه تمام التوكل.
وهو مردود بتداوي سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم وأصحابه. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين أن الدواء من قدر الله الذي يطلب والداء من قدر الله الذي يدفع. قال صلى الله عليه وسلم: «الدَّواء من القَدَر وقد يَنفَعُ مَن يَشَاءُ بما شَاء»
(2)
.
أما استدلالهم بحديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب
(3)
ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بأنهم «الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» ، فهذا ليس فيه ذكر التطبيب عمومًا، ونذكر قريبًا ما يبين أن المذموم ليس عموم الكي؛ والراجح أنه كذلك ليس فيه عيب الرقية الشرعية فقد رَقَى
(4)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورُقِي
(5)
بل إنه صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الذين عرضوا عليه
(1)
«حواشي الشرواني» (3/ 183).
(2)
«صَحِيح الجَامِع» رقم (3416).
(3)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو (5/ 2157).
(4)
«صَحِيح مُسْلِم» كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة (4/ 1724).
(5)
رقاه جبريل عليه السلام. (انظر فَتْح البَارِي: 11/ 408).
رقاهم: «مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ»
(1)
.
(2)
.
وهذا هو دين الإسلام وترك تعاطي الأسباب فيه إهلاك الأمة وتمكين أعدائها منها.
4 -
ما ذكروا من تركه صلى الله عليه وسلم للتداوي كما جاء في حديث أبي رِمْثَة رِفَاعَةَ بن يَثْرِبِيٍّ: «دخلت مع أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أبي الذي بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعني أعالج الذي بظهرك فإني طبيب. فقال: أَنْتَ رَفِيقٌ وَاللهُ الطَّبِيبُ»
(3)
. فإن هذه واقعة عين لا يستدل بها إذا تطرقها الاحتمال القوي
(4)
، وهنا أكثر من
(1)
«صَحِيح مُسْلِم» كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة (4/ 1726).
(2)
«الطب النبوي» لابن القَيِّم (1/ 10)، قال بمثل مقالته الحافظ في الفتح. انظر «فَتْح البَارِي» (10/ 135).
(3)
«سُنَن أبي دَاوُد» كتاب الترجل، باب في الخضاب (4/ 86). وصححه الألبَانِيّ (انظر «سُنَن أبي دَاوُد بتحقيق مشهور» رقم 4207).
(4)
قال ابن القَيِّم في الطُّرُق الحُكمِيَّة (1/ 341): «وإذا احتملت القصة هذا وهذا وهذا لم يجزم بوقوع أحد الاحتمالات إلا بدليل» .