الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فرع: فائدة فيما يستطيع الطب الشرعي أن يقدمه في جرائم الاغتصاب:
إن اغتصاب امرأة محصنة قد يكون أنكى وأشد وأكثر قساوة من قتل النفس. وتكون لهذه الجريمة من الآثار النفسية على المرأة وأهلها ما يفوق الوصف، وما لا تعبر عنه الكلمات، ولذا ناسب تطبيق حد الحرابة على الفاعل كما جرى في المملكة العربية السعودية ومصر، سيما عندما تكتمل جوانب الحرابة من الخطف واستعمال السلاح. والجمهور - خلافًا للأحناف - يرون أن الحرابة تكون داخل البلد كما تكون خارجها
(1)
.
ولكن هذا إما يكون عند إثبات جريمة الاغتصاب أو الحرابة والأولى يَعُوزها أربعةُ شهود عدول والثانية اثنان، إن لم يعمل بالقرائن. وإن هذا لما يتعذر في أكثر الأحوال.
فإذا ما لم تثبت التهمة على الجاني، كانت عقوبة المدَّعِيةِ أن تُحَد للقذف على خلاف بين الفقهاء في بعض التفاصيل. ولعل ذكر جانب من أقوالهم يفيد في حسن تصور القضية، ولم أجد أوفى وأنفس في الباب مما جاء عند المالكية رحمهم الله حيث جاء في شرح ميارة على نظم ابن عاصم:
«وَإِنْ يَكُنْ ذَا الْغَصْبُ بِالدَّعْوَى فَفِي
…
تَفْصِيلِهِ بَيَانٌ حُكْمُهُ يَفِي
فَحَيْثُمَا الدَّعْوَى عَلَى مَنْ قَدْ شُهِرْ
…
بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ نُظِرْ
فَإِنْ تَكُنْ بَعْدَ التَّرَاخِي زَمَنَا
…
حُدَّتْ لِقَذْفٍ وَبِحَمْل لِلزِّنَا
وَحَيْثُمَا رَحِمُهَا مِنْهُ بَرِي
…
فَالْحَدُّ تَسْتَوْجِبُهُ فِي الأَظْهَرِ
وَذَاكَ فِي الْمَجْهُولِ حَالًا إنْ جُهِلْ
…
حَالٌ لَهَا أَوْ لَمْ تَحُزْ صَوْنًا نُقِلْ
وَإِنْ تَكُنْ مِمَّنْ لَهَا صَوْنٌ فَفِي
…
وُجُوبِهِ تَخْرِيجًا الْخُلْفُ قُفِي
(1)
انظر «المَبسُوط» للسَّرَخْسِيِّ (9/ 201)، «المُغْنِي» لابن قُدامة (9/ 124)، ذكر توقف أحمد واختلاف أصحابه في تطبيق حد الحرابة في المصر.
وَحَيْثُ قِيلَ لَا تُحَدُّ إنْ نَكَلْ
…
فَالْمَهْرُ مَعْ يَمِينِهَا لَهُ حَصَلْ
وَمَا عَلى الْمَشْهُورِ بِالْعَفَافِ
…
مَهْرٌ وَلَا حَلْفٌ بِلَا خِلَافِ
وَحَيْثُ دَعْوَى صَاحَبَتْ تَعَلُّقَا
…
حَدُّ الزِّنَا يَسْقُطُ عَنْهَا مُطْلَقَا
وَالْقَذْفُ فِيهِ الْحَدُّ لِابْنِ الْقَاسِمِ
…
وَحَلْفُهُ لَدَيْهِ غَيْرُ لَازِمِ
وَمَنْ نَفَى الْحَدَّ فَعِنْدَهُ يَجِبْ
…
تَحْلِيفُهُ بِأَنَّ دَعْوَاهَا كَذِبْ
وَمِنْ نُكُولِهِ لَهَا الْيَمِينُ
…
وَتَأْخُذُ الصَّدَاقَ مَا يَكُونُ
وَحَدُّهَا لَهُ اتِّفَاقًا إنْ تَكُنْ
…
لَيْسَ لَهَا صَوْنٌ وَلَا حَالٌ حَسَنْ
وَعَدَمُ الْحَدِّ كَذَا لِلْمُنْبَهِمْ
…
حَالًا إذَا كَانَتْ تَوَقَّى مَا يَصِمْ
وَإِنْ تَكُنْ لَا تَتَوَقَّى ذَلِكَا
…
فَالْحَلْفُ تَخْرِيجًا بَدَا هُنَالِكَا
وَفِي ادِّعَائِهَا عَلَى الْمُشْتَهِرِ
…
بِالْفِسْقِ حَالَتَانِ لِلْمُعْتَبِرِ
حَالُ تَشَبُّثٍ وَبِكْرٌ تَدْمَى
…
فَذِي سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهَا عَمَّا
فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا وَإِنْ حَمْلٌ ظَهَرْ
…
وَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ حَلْفٌ مُعْتَبَرْ
وَحَيْثُ قِيلَ إنَّهَا تَسْتَوْجِبُهْ
…
فَبَعْدَ حَلْفٍ فِي الأَصَحِّ تَطْلُبُهْ
وَإِنْ يَكُنْ مَجْهُولَ حَالٍ فَيَجِبْ
…
تَحْلِيفُهُ وَمَعْ نُكُولٍ يَنْقَلِبْ
وَحَالَةٌ بَعْدَ زَمَانِ الْفِعْلِ
…
فَالْحَدُّ سَاقِطٌ سِوَى مَعْ حَمْلِ
وَلَا صَدَاقَ ثَمَّ إنْ لَمْ يَنْكَشِفْ
…
مِنْ أَمْرِهِ بِالسَّجْنِ شَيْءٌ فَالْحَلِفْ
وَإِنْ أَبَى مِن الْيَمِينِ حَلَفَتْ
…
وَلِصَدَاقِ الْمِثْلِ مِنْهُ اسْتَوْجَبَتْ»
(1)
وحاصل ما في الأبيات أن المرأة المدَّعِية للاغتصاب إما أن تكون ممن تَتَوقَّى الرذيلة وما يصِمُها أو لا. والرجل المدعَى عليه إما صالح الحال أو مجهولُه أو معروفٌ بالفسق. وهي إما أن تأتي إلى القضاء مباشرة بعد وقوع الجريمة أو بعدها بزمن. فهذه أحوال اثتنا عشرة.
(1)
«شرح مَيَّارة على نظم ابن عاصم» (2/ 439).
فلو أن صالحة الحال أتت مباشرة - متشبثة به أو بكر تدمى - فلها حال من ثلاثة:
1 -
أن تدعي على صالح الحال، فلا حد عليها في الزنا اتفاقًا وقال ابن القاسم تحد للقذف، وقال غيره لا تحد وهل لها عليه يمين؟ قولان.
2 -
أن تدعي على مجهول الحال، فلا حد عليها في الزنا أو القذف اتفاقًا ولها عليه اليمين.
3 -
أن تدعي على المعروف بالفسق، فلا حد عليها، وقال بعضهم لها الصداق بيمينها.
ولو أنها أتت بعد زمان، فلها حال من ثلاثة كذلك:
1 -
أن تدعي على صالح الحال، فتحد للقذف، وإن ظهر بها حمل للزنا (جريًا على قول المالكية).
2 -
أن تدعي على مجهول الحال، ففي حدها للقذف قولان.
3 -
أن تدعي على المعروف بالفسق، فلا تحد للقذف اتفاقًا.
ولو أن المرأة التي لا تتوقى ما يصِم أتت مباشرة - متشبثة به أو بكر تدمى - فلها حال من ثلاثة:
1 -
أن تدعي على صالح الحال، فتحد للقذف اتفاقًا.
2 -
أن تدعي على مجهول الحال، فاختلفوا في حدها لقذفه.
3 -
أن تدعي على المعروف بالفسق، فلا تحد.
ولو أنها أتت بعد زمان، فلها حال من ثلاثة كذلك:
1 -
أن تدعي على صالح الحال، فتحد للقذف اتفاقًا.
2 -
أن تدعي على مجهول الحال، فتحد للقذف اتفاقًا.
3 -
أن تدعي على المعروف بالفسق، فلا تحد.
إن إقامة حد القذف على المدعية في بعض هذه الأحوال يراه البعض ظلمًا وهؤلاء قصر نظرهم عن إدراك كل جوانب الصورة، ولم ينظروا فقط إلا إلى حق المدعية، مع إهمالهم لاحتمال أن تفتري المرأة المأجورة أو المغرضة على الرجل الشريف لتهدم سمعته وتلحق الأذى به وبأهل بيته.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا التثبت والاحتياط في اتهام الناس، سيما بفاحشة تهدم سمعة الإنسان وقد تحطم أسرته، وترجع ببالغ الضرر على أولاده. ومن جوامع كلمه الطاهر قوله صلى الله عليه وسلم:«لو يُعْطَى الناس بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ على الْمُدَّعَى عليه»
(1)
.
لكن يبقى أن للشارع مقصودًا في إقامة العدل وحفظ جميع الحقوق، ومنها حق المُغْتَصَبَة التي لا تجد بينة على استكراهها. وهذا المقصود ينبغي أن تبتغي إليه كل وسيلة ممكنة تحفظ للمدعية حقها ولا تَحِيف على المدعي عليه.
فهل من وسائل حديثة يستطيع الطب الشرعي أن يقدمها لدعم القضاء في هذا الباب؟
الحق أن هناك عدة وسائل: فإن المرأة إذا أتت بعد استكراهها، تم فحصها وعمل التحاليل اللازمة فينظر إلى آثار المقاومة على جسدها ويجمع الشعر الملتصق بملابسها أو بدنها، كما تجمع التلوثات المنوية من بدنها وثيابها.
(1)
«صَحِيح مُسْلِم» كِتَاب الأَقْضِيَة، بَاب اليَمِين على الْمُدَّعَى عليه (3/ 1336).
وبعد تحليل الشعر والمني المجموع عن طريق اختبار الحمض النووي، يمكن الجزم
(1)
بأن هذا الشعر والمني للمشتَبَه فيه أم لا. ويمكن تحديد نوع الشعر كذلك.
إن تقرير هذا سيكون له بالغ الأثر في مجريات القضية، وسيكون نافعًا أيضًا فحص علامات المقاومة على بدن المدعية والمدعى عليه.
أما إن ادعت المرأة اغتصابها بعد زمن وظهر حملها، فإن المقارنة بين البصمة الوراثية للجنين والمدعى عليه ستظهر ما لو كان المدعى عليه واقعها أم لا.
ولكن ما فائدة كل ذلك؟ فقد يقال:
إن دعوى المرأة على الرجل الصالح بعد زمن ومع عدم التعلق، لا تسمع وليس لها عليه يمين.
والجواب أنهم إنما ذكروا ذلك لاستحالة إثبات كون الولد منه على وجه اليقين أو غلبه الظن المقاربة له. والحال في زماننا يختلف.
إن إثبات كون المني أو الشعر للرجل ليس دليلا على حصول الزنا بمعنى الإيلاج بله الاغتصاب.
والجواب: إن ذلك حق، حتى لو استخرج المني من فرجها، فقد يحتمل أنها دفعته بإصبعها. ولكن الذي ينبغي ألا نهمله أن المدعى عليه إما أن يقر بالاغتصاب، فيحد بالزنا، أو الحرابة فيحد لها، أو باتصاله بالمرأة من غير إيلاج، فيعزر بتعزير رادع. وقد ينكر أي اتصال بها أو معرفة لها، وهذا لا يستقيم مع وجود منيه على بدنها أو ثوبها أو كليهما. وعندما يظهر كذبه، يعزر بما يردعه وأمثاله.
(1)
انظر دقة البصمة الوراثية في البحث الخاص بها.
ثم إن في إثبات ذلك ما يدفع عن المرأة حد القذف، وكيف لا والحدود تدرء بالشبهات.
ولقد ذكر ابن القَيِّم رحمه الله في «الطُّرق الحُكمية» قصة طريفة فقال:
(1)
.
فانظر كيف أنهم على قلة الوسائل في زمانهم، كانوا يتحرون الحقيقة بكل وسيلة متاحة لهم، ولم يكن في قضائهم رضي الله عنهم ما يتعارض مع صريح المعقول، بل كان مفخرة للإسلام وأهله في كل زمان. أما عندما انعدمت الوسيلة لمعرفة الحقيقة، فحينها لم يكن الله ليكلفهم إلا وسعهم.
فاللهم ارض عنهم، وأقمنا على طريقتهم، واجمعنا بهم حول حوض نبيك صلى الله عليه وسلم.
* * *
(1)
«الطُّرُق الحُكمِيَّة» لابن القَيِّم (1/ 70).
المبحث الثاني: تطبيقات استعمال الدليل المادي
تحديد النسب باستعمال الأحماض الأمينية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النسب وأدلة ثبوته
المطلب الثاني: مسائل مهمة في أحكام النسب
المطلب الثالث: التعريف بالبصمة الوراثية
المطلب الرابع: حكم اعتماد البصمة الوراثية كدليل على ثبوت الأبوة أو نفيها