الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا، وفسادا عريضا فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك. وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه. فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات. فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها؛ بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له. فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات»
(1)
.
•
الفرع السادس: الترجيح:
إن الذي يظهر هو أن العمل بالقرائن مجمع عليه، والحنفية والشافعية يعملون بها ولكن في غير الحدود والقصاص وأخذهم بالقرائن الحسية والحالية أكثر وهم صرحوا
(1)
«الطُّرُق الحُكمِيَّة» لابن القَيِّم (1/ 19).
بالعمل بالقطعية منها.
والأدلة شاهدة على العمل بالقرائن في غير الحدود والقِصاص، سيما فيما يتعلق بالخصومات بين العباد، وهذا الذي ينبغي المصير إليه، ولا يتحقق العدل من غيره، ولا يكون للقضاء والقانون هيبة إلا به، فإن أنواع الجريمة تتعدد وأساليبها ليست تنحصر وهي تزداد يومًا بعد يوم، فكيف نحصر أدلة الإثبات ونكبل أيدي القضاة؟
وإذا لم نأخذ بالدليل المادي، فكيف نتعامل مع جرائم الشبكة المعلوماتية؟ وكيف نطرح الطب الشرعي وأدواته التي تبلغ مبلغ اليقين في إثبات ما تتصدى لإثباته، كما هو الحال في البصمة الوراثية مثلا.
أما الحدود والقصاص، فلابد من العمل بالقرائن فيهما في مرحلة التحقيق الجنائي للتضييق على المتهم
(1)
واستدراجه، ثم إنه إن كانت القرينة قاطعة، ولم تكن هناك بينة مما جرى العمل عليه مما في نصوص الوحيين وعمل الصحابة، دفع الحد بالشبهة، ولزمت العقوبة التعزيرية التي يقدرها القضاء. فإن درء الحد لا يعني المنع من العقوبة بالكلية
(2)
.
وإذا أدى استعمال القرينة إلى الإقرار فالإقرار عندها هو الدليل.
وإنما كان ذلك في الحدود لأنها تدرء بالشبهات وأكثرها حق لله ينبني على المسامحة.
أما شرب الخمر، فيقضى فيها بالقرينة القاطعة سواءٌ التي جرى العمل بها أو ما يساويها أو يزيد عليها، فيحد شاربها بذلك، وهذا لما لها من خطر عظيم على المجتمع،
(1)
وقد يضرب إن كان من أهل التهمة عند بعضهم. انظر «الفَتَاوَى الكُبْرَى» لابن تَيمِيَّة (4/ 228).
(2)
انظر أقوال الفقهاء في التعزير في: «المُحَلَّى» لابن حَزْم (11/ 401) وانظر في «ثبوت الدية دون القود» «مُغْنِي المُحْتاج» للشِّرْبِينِيِّ (4/ 118). و «المُغْنِي» لابن قُدامة (8/ 403) وفيه قبول الشاهد ويمين الطالب في ما يوجب المال كشبه العمد والخطأ.
ولثبوت ذلك عن رهط من الصحابة، وذلك بالطبع إن لم يدفع المتهم الحد عن نفسه بشبهة
(1)
يقبلها القاضي.
وفي السرقة يغرم السارق إن وجد عنده مال للمسروق منه ويعاقب بعقوبة رادعة دون الحد.
أما القِصاص فيقضى فيه بالدِّيَة لعظيم حق الدماء، ويقضى بتعزير لائق عند قوة القرينة مراعاةً لحق المجني عليه والمجتمع.
وليس من نافلة القول أن في توسيع دائرة التعزير تمكينًا للقضاء من ردع المجرمين الذين تنوعت أشكال ووسائل غيهم وإفسادهم في الأرض.
والتعزير مما يتغير ليناسب الزمان والمكان والحال، وفي ذلك يقول ابن القَيِّم رحمه الله:«النوع الثاني: ما يتغير بحسَب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسَب المصلحة»
(2)
.
* * *
(1)
قال في «الفُرُوع» : «واختاره الشيخ تقي الدين إن لم يدع شبهة» . «الفُرُوع» لابن مُفْلِح (6/ 85). ونبين أن هذا يستبدل الآن بالتحليل.
(2)
«إغَاثَة اللَّهْفَان من مَصَائد الشَّيطَان» لابن القَيِّم (1/ 330).