الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - تبدأ الحياة الإنسانية عند تمام أربعة الأشهر:
هذا هو قول المتقدمين كافة، ونُقِل عليه اتفاقُهم، ودليلُهم حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم؛ ولفظ البخاري:«حدثنا آدَمُ حدثنا شُعْبَةُ حدثنا الأَعْمَشُ سمعت زَيْدَ بن وَهْبٍ سمعت عَبْدَ اللهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه يقول: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق-: إن خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وأربعين لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مثله، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مثله، ثُمَّ يُبْعَثُ إليه الْمَلَكُ، فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فيه الرُّوحَ؛ فإن أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حتى لا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حتى ما يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»
(1)
.
والحديث غاية في الصحة عند أهل الحديث، قال الحافظ رحمه الله: «قوله ورد في الخبر أن الولد إذا بقي في بطن أمه أربعةَ أشهر نفخ فيه الروح متفقٌ عليه مجمعٌ بين أهل الحديث على صحته من حديث زيد بن وَهْب عن ابن مسعود حدثني الصادق المصدوق: إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ
…
الحديث»
(2)
.
ولا شك أنه ما من سبيل إلى تضعيف ما جاء في الصحيحين، ولكنْ يمكنُ أن يقالَ بسقوطِ لفظةٍ أو اختلافِ جملةٍ، فننظر في سائر الروايات لعل فيها ما يرد الأمور إلى نصابها، ولقد جاء في لفظ مسلم رحمه الله وهو من هو في الحرص على دقة الألفاظ - ما يأتي: «عن زيد بن وَهْب عن عبد اللهِ قال حدثنا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ في ذلك عَلَقَةً مِثْلَ ذلك ثُمَّ يَكُونُ في ذلك مُضْغَةً مِثْلَ ذلك ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ
(1)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب التوحيد، باب قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا
…
(6/ 2713).
(2)
«تَلْخِيص الحَبِير» (2/ 115).
رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ فَوَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حتى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وإن أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حتى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»
(1)
.
إن قوله صلى الله عليه وسلم: «في ذلك» إما أن يرجع على الوعاء المكاني، وهو البطن أو الزماني وهو الأربعون يومًا، ورجوعه على الزمان أولى لأنه آخر مذكور، فتكون المراحل كلها في تلك الأربعين ذاتها.
قال ابن الزَّمْلَكانِيّ رحمه الله
(2)
في الجمع بين الروايات: «وأما حديث البخاري فينزل على ذلك، إذ معنى يجمع في بطن أمه، أي يحكم ويتقن، ومنه رجل جميع أي مجتمع الخلق. فهما متساويان في مسمى الإتقان والإحكام لا في خصوصه، ثم إنه يكون مضغة في حصتها أيضا من الأربعين، محكمة الخلق مثلما أن صورة الإنسان محكمة بعد الأربعين يوما، فنصب مثل ذلك على المصدر [أي مثل ذلك في الجمع والإتقان] لا على الظرف. ونظيره في الكلام قولك: إن الإنسان يتغير في الدنيا مدة عمره، ثم تشرح تغيره فتقول: ثم إنه يكون رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم هرما ثم يتوفاه الله بعد ذلك.
(1)
«صَحِيح مُسْلِم» كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه
…
(4/ 2036).
(2)
هو: كمال الدين أبو المعالي محمد بن علي الأنصَارِيّ السِّمَاكِيّ، المعروف بابن الزَّمْلَكانِيّ، الإمام العلامة، نسبه إلى أبي دجانة سِماك بن حرب الأنصَارِيّ رضي الله عنه. ولد في شوال سنة 667. تفقه على تاج الدين، وأخذ العربية عن بدر بن مالك، وأطلق عليه الذَّهَبِيّ عالم العصر وأمير الشافعية. كان قد أثنى على شيخ الإسلام ابن تَيمِيَّة بما لا مزيد عليه ثم وقعت بينهما خصومة، والله يعامل جميع من أراد وجهه من هذه الأمة المرحومة بأحسن ما عملوا. مات ببلبيس بمصر، وكانت وفاته سنة 727. انظر «البِدَايَة والنِّهَايَة» (6/ 258)، «الدُّرَر الكَامِنَة في أعيان المِائة الثَّامِنَة» (5/ 328)، «فوات الوفيات» (2/ 411).
وذلك من باب ترتيب الإخبار عن أطواره التي ينتقل فيها مدة بقائه في الدنيا. ومعلوم من قواعد اللغة العربية أن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي بين الخبر قبلها وبين الخبر بعدها إلا إذا جاءت قرينة تدل على أنها لا تفيد ذلك، مثل قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 153، 154]. ومن المعلوم أن وصية الله لنا في القرآن جاءت بعد كتاب موسى، فـ (ثم) هنا لا تفيد ترتيب المخبر عنه في الآية. وعلى هذا يكون حديث ابن مسعود: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك (أي في ذلك العدد من الأيام) علقة (مجتمعة في خلقها) مثل ذلك (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين) ثم يكون في ذلك (أي في نفس الأربعين يوما مضغة مجتمعة مكتملة الخلق المقدر لها) مثل ذلك أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين يوما»
(1)
.
وقد تحمل «ثم» في رواية البخاري على أنها للترتيب الجمعي دون الزمني. وبهذا الجمع تنسجم الروايات مع ظاهر القرآن وبعضها البعض وهو الأهم، ولا يكون فيها مخالفة للعلم الحديث.
أما كون الجنين يكون له قلب نابض بعد أربعة أسابيع، فكيف نسميه مضغة؟ فليس اعتراضًا وجيهًا وذلك أن لفظة مضغة تحتمل ذلك، والله تعالى يقول {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] أي أن التخليق يظهر في زمان المضغة
(2)
.
ولا يبعد أن يقال إن حديث حذيفة يدل على كون مراحل النطفة والعلقة والمضغة تتم في الأربعين الأولى، وليس فيه دلالة واضحة أنها تمتد إلى آخر الأربعين، بل الواضح فقط أنه عند الأربعين يبدأ التمايز وتسريع عملية التخليق.
(1)
«البُرْهَان الكَاشِف عن إعْجَاز القُرآن» لابن الزَّمْلَكانِيّ (ص 275).
(2)
انظر «تَفسِير الجَلالَيْن» للمَحَلِيّ والسُّيُوطِيّ (1/ 433).