الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إني مُقْرِعٌ بينكم، فمن قرَع فله الولد، وعليه لصاحبيه ثلثا الدِّيَة، فأقرع بينهم، فجعله لمن قَرَع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسُه أو نَواجِذُه
(1)
.
فعلي إذًا لم ير إلا أن ينسب الولد لأحد الثلاثة، فلما تعذر الترجيح لجأ إلى القرعة إعمالا للعدل في حدود المقدور.
4 -
قالوا وجرت العادة أن لكل ولد أبًا واحدًا
(2)
.
5 -
وقالوا إن الماء إذا استقر في الرحم اشتمل عليه وانضم غاية الانضمام بحيث لا يبقى فيه مقدار رسم رأس إبرة إلا انسد فلا يمكن انفتاحه بعد ذلك لماء ثان لا من الواطئ ولا من غيره
(3)
.
•
مناقشة الأدلة والترجيح:
الراجح هو أن الحمل لا يكون من ماءين، بل من ماء واحد وأن الولد لا ينسب إلا إلى أب واحد، فإن كان الطفل مميزًا اختار وإن كان دون سن التمييز أقرع بين المدعين كما فعل علي رضي الله عنه وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد اخترت ذلك القول لقوة دليله من الشرع والحس.
1 -
أما استدلالهم بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وطء الحامل من الغير، فلا دليل فيه على الاشتراك في الولد، وإنما كان ذلك حراسة للنسب ومنعًا لاختلاطه وكثرة دعاوى الأبوة، إلى غير ذلك من المفاسد.
(1)
«سُنَن أبي دَاوُد» كتاب الطلاق، باب من قال بالقرعة إذا تنازعوا في الولد (2/ 181). وصححه الألبَانِيّ انظر «سُنَن أبي دَاوُد» بتحقيق مشهور رقم (2269).
(2)
انظر «التِّبيَان في أقسَام القُرآن» لابن القَيِّم (1/ 222)؛ و «الاسْتِذْكَار» لابن عبد البَرّ (7/ 174).
(3)
«التِّبيَان في أقسَام القُرآن» لابن القَيِّم (1/ 222).
2 -
وأما استدلالهم بقضاء عمر رضي الله عنه في جعله الولد بين المدعيين، فإنه وإن صحح بعض أهل الحديث رواية:«فجعله بينهما» ، إلا أن المتقدمين من أهل الحديث الذين رووا كل هذه الأخبار رجحوا رواية «والِ أيهما شئت» .
قال البَيْهَقِيّ: «هاتان الروايتان [روايتا «فجعله بينهما» ] رواية البصريين عن سعيد ابن المُسَيَّب عن عمر وروايتهم عن الحسن عن عمر رضي الله عنه كلتاهما منقطعة وفيهما لو صحتا دلالة مع ما تقدم على الحكم بالشبه والرجوع عند الاشتباه إلى قول القافة فأما إلحاقه الولد بهما عند عدم القافة فالبصريون ينفردون به عن عمر رضي الله عنه ورواية الحجازيين عن عمر رضي الله عنه على ما مضى ورواية الحجازيين عنه أولى بالصحة [رواية «وال أيهما شئت»]، ورواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر رضي الله عنه موصولة ورواية سليمان بن يسار لها شاهدة وكلاهما يثبت قول عمر رضي الله عنه»
(1)
.
وقال الطَّحَاوِيّ: «مرسل سليمان بن يسار وعُرْوَة أولى من مرسل أبي المهلب والحسن وأما رواية قَتَادَة عن ابن المُسَيَّب فهي منقطعة وقد عارضها رواية الحجازيين عن عُرْوَة وسليمان بن يسار ورواية أسلم المنقري عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قصة عبد الرحمن بن عوف فهذا أثبت والحجازيون أعرف بأحكام عمر ومع روايتهم رواية هشام بن عُرْوَة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال أتى رجلان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يختصمان في غلام من أولاد الجاهلية يقول هذا هو ابني ويقول هذا هو ابني فدعا عمر قافيًا من بني المصطلق فسأل عن الغلام فنظر إليه المصطلقي ونظر ثم قال لعمر قد اشتركا فيه جميعًا فقام عمر إليه بالدرة فضربه بها حتى اضطجع ثم قال والله لقد ذهب بك النظر إلى غير مذهب ثم دعا أم الغلام فسألها فقالت إن هذا لأحد الرجلين وقع بي على نحو ما كان يفعل فحملت فيما أرى فأصابتني هراقة من دم حتى وقع في نفسي أن لا شيء في بطني ثم أن هذا الآخر وقع بي فوالله ما أدري من أيهما هو فقال عمر للغلام اتبع أيهما شئت فقام الغلام فاتبع
(1)
«سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب الدعوى والبينات، باب القافة ودعوى الولد (10/ 264).
أحدهما قال عبد الرحمن فكأني أنظر إليه متبعا لأحدهما فذهب به»
(1)
.
3 -
وأما قول الكوفيين كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله لا يقضى بقول القافة في شيء لا في نسب ولا في غيره وإن ادعى رجلان مسلمان ولدا جعل بينهما، فلا يصح، وقد عمل الجمهور من أهل الحجاز وغيرهم في القضاء بالقافة
…
(2)
.
والحقيقة أنه لم يقض بقول القائف، ولكنه لما عجز القافة عن نسبته أمره أن يوالي من شاء كما لو لم يكن ثم قائف.
4 -
وأما زعم الإجماع فبعيد، وقد اختلفت الروايات عن عمر نفسه، وحديث إقراع علي في اليمن وإقرار النبي له مشهور معروف.
5 -
وأما نسبتهم هذا القضاء بالإشراك لعلي رضي الله عنه فلم يصح عنه
(3)
، وإنما الذي صح عنه هو الإقراع. وإن صح عن عمر أو علي مثل هذا القضاء، فإنه رأي وليس رأيهما مع وجود المخالف بحجة.
6 -
وأما الاستواء في الاستحقاق وتجزؤ أحكام النسب، فله وجه، ولكن لما كان لا يُصْلِح الولد أن يكون له والدان، كان الصواب عند العجز عن إلحاقه بأحدهما أن
(1)
«مَعْرِفَة السُّنَن والآثَار» (7/ 474)؛ ورواية يحيى قال عنها البَيْهَقِيّ: «هذا إسناد صحيح موصول» . انظر: «سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب الدعوى والبينات، باب القافة ودعوى الولد (10/ 263).
(2)
«الاسْتِذْكَار» لابن عبد البَرّ (7/ 174).
(3)
انظر «إرْوَاء الغَلِيل» (6/ 27).
يخير إن كان مميزًا أو يقرع بينهما إن كان لم يميز. وقد يتجه أن يتربص به حتى يميز فيختار. وسوف نرى أن الطب الحديث يحل هذه المشكلة بفضل من الله.
وأما استدلالاتهم الطبية فالجواب عنها في المطلب الآتي ولكن قبل أن ننتهي من هذا المطلب نذكر أن القائلين بالاشتراك ليس بالضرورة يقولون أن الحمل يكون من ماءين.
جاء في «فَتْح القَدِير» : «(وإن ادعياه معا ثبت نسبه منهما)
…
والنسب وإن كان لا يتجزأ ولكن تتعلق به أحكام متجزئة، فما يقبل التجزئة يثبت في حقهما على التجزئة، وما لا يقبلها يثبت في حق كل واحد منهما كاملا كأن ليس معه غيره»
(1)
فأقر بأن النسب لا يتجزأ ولكن أحكامه هي التي قد تتجزأ.
وصرح بهذا المعنى في البَحْر الرَّائق: «(قوله: ولو ادعى ولد أمة مشتركة ثبت نسبه، وهي أم ولده، ولزمه نصف قيمتها ونصف عقرها لا قيمته) أما ثبوت النسب فلأنه لما ثبت في نصفه لمصادفته ملكه ثبت في الباقي ضرورة أنه لا يتجزأ لما أن سببه لا يتجزأ وهو العلوق إذ الولد الواحد لا يعلق من ماءين»
(2)
.
ولكن الإشكال في حل المعضلة عند عدم القدرة على الإلحاق بأحد الأبوين، ولذلك فإن المالكية المصرحين باستحالة تكون الولد من ماء أبوين يقولون بالاشتراك في بعض الأحكام، فقد جاء في الاسْتِذْكَار:«ولم يختلف قول مالك وأصحابه إذا قالت القافة قد اشتركا فيه أن يوقف الصبي حتى يبلغ فيقال له وال أيهما شئت وإنه إن مات قبل البلوغ والموالاة كان ميراثه بين الأبوين»
(3)
.
* * *
(1)
«فَتْح القَدِير» لابن الهُمَام (5/ 54). وما بين الأقواس لصاحب الهِدَايَة، الإمام المَرْغِينانِيّ رحمه الله.
(2)
«البَحْر الرَّائق» لابن نُجَيْم (4/ 296). وما بين الأقواس لصاحب كَنْز الدَّقَائق، حافظ الدين أبي البركات عبد الله بن أحمد النَّسَفي رحمه الله.
(3)
«الاسْتِذْكَار» لابن عبد البَرّ (7/ 174).