الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
احتمال: فربما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن يعالجه ذلك الرجل بالذات
(1)
، أو أنه كان صلى الله عليه وسلم أعلم بعلاج ما فيه، أو أنه كره شيئًا من سلوك الرجل، وقد ذكر صاحب عَوْن المَعْبُود أنه جاء في بعض روايات الحديث عند أحمد أن الرجل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا نبي الله إني رجل طبيب من أهل بيت أطباء فأرني ظهرك فإن تكن سِلْعَةً أَبُطُّهَا وإن كان غير ذلك أخبرتك فإنه ليس من إنسان أعلم مني»
(2)
.
إن الحديث ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك التداوي، ولكن فيه أنه لم يأذن لهذا الرجل بمداواته، وقد أذن لغيره كثير، كما سنبين، فليُتأمَّل.
*
أدلة الوجوب:
والآن، أضع بين يديك مجموعة من الأدلة التي ترجح جانب الفعل على الترك، وبعضها قد يستدل به على الوجوب.
1 -
أمره صلى الله عليه وسلم بالتداوي:
عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نَعَم، يا عِبَادَ اللهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ عز وجل لم يضع دَاءً إلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ. قَالُوا: مَا هُو؟ فقال: الهَرَم»
(3)
.
نعم، جاء الأمر بعد سؤال ولعل ذلك يصرفه عن الوجوب، ولكن أنت ترى أنه في هذا الحديث يعلل أمره بالتداوي بما فيه من النفع، والمسلم ينبغي أن يحرص على ما ينفعه، وكذلك على دفع ما يضره.
(1)
لقد ذكر موفق الدين البَغْدَادِيّ هذا الحديث وترجم له باجتناب من لا يحسن الطب «الطب من الكتاب والسنة» (ص 189).
(2)
«عَوْن المَعْبُود» للعَظِيم آبادِي (11/ 175).
(3)
«سُنَن التِّرْمِذِيّ» كتاب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه (4/ 383)، قال: حسن صحيح.
ثم إن غير أسامة بن شريك من أصحابه صلى الله عليه وسلم روى الأمر مع عدم ذكر السؤال قبله، ومع اختلاف في الألفاظ يشعر بتعدد الوقائع، فعند أبي داود - وسكت عنه - من حديث أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله أنْزَلَ الدَّاءَ والدَّوَاءَ وجَعَلَ لِكُل دَاءٍ دَواءً فَتَدَاوَوا ولا تَدَاوَوْا بِحَرَام»
(1)
.
وفي مسند أبي حنيفة رحمه الله، والتمهيد - وصححه ابن عبد البر - من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:«تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ فإن الله لم يُنزِل دَاءً إلا أنْزَلَ لَهُ شِفاء إلا السَّام -وهُو الموتُ- فَعَلَيكم بألبان البَقَر فإنها تَرُم من كل الشَّجَر»
(2)
.
وفي «التمهيد» - وصححه ابن عبد البر - من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس تَدَاوَوْا فإن الله لم يَخْلُق دَاءً إلا خلَقَ لَه شِفاء إلا السَّام والسَّام المَوْت»
(3)
.
2 -
بيانه صلى الله عليه وسلم أن لكل داءٍ دواءً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أَنْزَلَ الله دَاءً إلا أنزل له شِفَاءً»
(4)
.
وليس هذا دليلا على الوجوب، ولكن لا يخفى أن فيه التوكيد على نفع التداوي وأنه حقيقي غير متوهم.
(1)
«سُنَن أبي دَاوُد» كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة (4/ 7)، سكت عنه، وهو يعني أنه صالح عنده كما في مقدمته.
(2)
«مسند أبي حنيفة» (1/ 212).
(3)
«التمهيد» لابن عبد البَرّ (5/ 284).
(4)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء (5/ 2151).
3 -
ممارسته صلى الله عليه وسلم للتطبيب:
• فعن أبي سعيد: «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: اسْقِهِ عَسَلا»
(1)
.
وكذلك «داوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبوال وألبان الإبل»
(2)
.
• وحض على التداوي بالحبة السوداء
(3)
وبالتَلْبِينَة
(4)
(5)
. وبالقُسْط الهندي
(6)
وبالحجامة
(7)
وغيرها كثير.
• وما أكثر ما قال: «عَلَيْكُم بالحَبَّة السَّوْدَاء» وبغيرها. وعليكم من صيغ الأمر كما هو معلوم، وإن كان يمكن صرفه بالقرائن إلى كونه أمر إرشاد وتوجيه لا إلزام وإيجاب.
و «بعث إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيبًا فقطع منه عرقه ثم كواه عليه»
(8)
. وهو دليل على جواز التداوي بالجراحة.
(1)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الطب، باب الدواء بالعسل وقول الله تعالى:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (5/ 2152).
(2)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الطب، باب الدواء بأبوال الإبل (5/ 2153).
(3)
«البخاري» كتاب الطب، باب الحبة السوداء (5/ 2153).
(4)
التلبينة: حساء يتخذ من نخالة الشعير.
(5)
«البخاري» كتاب الطب، باب التلبينة للمريض (5/ 2154).
(6)
«البخاري» كتاب الطب، باب السعوط بالقسط الهندي والبحري وهو الكست مثل الكافور والقافور
…
(5/ 2155).
(7)
«البخاري» كتاب الطب، باب الحجامة من الداء (5/ 2156).
(8)
«صَحِيح مُسْلِم» كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، (4/ 1730).
4 -
وتداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
• وخير الهدي هدي محمد، وقد صحت الأخبار بأنه تداوى بالحجامة
(1)
والحِنّاء
(2)
وغيرها.
• وقالت عائشة رضي الله عنها لما سألها عُرْوَة عن درايتها بالطب-: «إن رسول الله كَثُر سَقَمُه، فكان أطباء العرب والعجم يَنعَتُون له فتعلمت ذلك»
(3)
.
5 -
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ضَرر ولا ضِرار»
(4)
.
وهذا الحديث - الذي هو من أصول الدين وقاعدة فقهية كلية كبرى - خير دليل على وجوب التداوي بالمأمون من الأدوية إذا غلب على الظن أنه يندفع بها المرض، فأي ضرر دنيوي فوق ضرر المرض.
وإن ضرر المرض ليس يعطل المرء عن الضرب في الأرض وعمارتها واكتساب الرزق فحسب، بل إنه يعطل عن الكثير من المصالح الدينية للفرد والأمة، كالجهاد والدعوة
(1)
«البخاري» كتاب الطب، باب الحجامة من الداء (5/ 2156).
(2)
«التِّرْمِذِيّ» كتاب الطب، باب ما جاء في التداوي بالحناء (4/ 392). وقال حسن غريب.
(3)
«الإجَابَةُ لمَا اسْتَدْرَكَتْ عَائِشَة» لبدر الدين الزَّرْكَشِيّ (1/ 57)، قال: ورد في الحاكم نحوه من جهة إسرائيل عن هشام، وقال صحيح الإسناد؛ قال الذَّهَبِيّ على شرط الشيخين.
(4)
حديث شريف وأيضًا قاعدة فقهية كلية: «سُنَن ابن مَاجَه» كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2/ 784)، «المُسْتَدْرَك على الصَّحِيحَيْن» كتاب البيوع (2/ 66). ورواه أيضًا مالك في «المُوَطَّأ» ، وأحمد في «المسند» ، والبَيْهَقِيّ في «الكُبْرَى» ، وآخرون. وحسنه النووي في «الأربعين» ، وصححه الألبَانِيّ لكثرة طرقه. انظر «الإرواء» برقم 896 و «سُنَن ابن مَاجَه» بتحقيق مشهور برقم (2340)، «صَحِيح الجَامِع» برقم 7517. والحديث، وإن تكلم البعض في سنده، إلا أن سنده محتمل للتحسين، وعَمَلُ الفقهاء عليه، ونصوص الوحيين شاهدة له، بل يشهد له دين الإسلام كله.