الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصود الفتوى لا الحكم الشرعي
إن من علمائنا من قال - كما سيأتي - بثبات الحكم واستحالة تغيره، ومنهم من قال بتغير الأحكام، وفي الصفحات الآتية نبين أن الخلاف بينهم في الألفاظ لا في المفاهيم، وكذلك نؤكد على أن ما نقصِده من التغير هو تغير الفتوى دون الحكم الشرعي كما يُعرِّفه الأصوليون.
وذلك لأن الحكم الشرعي -كما يعرفه الأصوليون- هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا
(1)
. ويُعرِّفه الفقهاء بأنه أثر خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا
(2)
.
وهذا - على تعريف الأصوليين - لا يمكن أن يتصور تغيره بعد انقطاع الوحي، وكذلك فالصواب أنه لا يتغير على تعريف الفقهاء، فلكل خطاب أثر ثابت في الواقعة المعينة، أدركه الفقيه أم لا. أما الفتوى، فإنها إخبار المفتي عما اعتقد أنه حكم الله في المسألة المعينة أو الواقع المعين
(3)
.
(1)
انظر «المَحْصُول» للرَّازِيّ (1/ 107)، «شَرْح التَّلْوِيح على التَّوْضِيح» للتَّفْتَازانِيّ (1/ 25)، «المَوْسُوعَة الفِقْهِيَّة» (18/ 66).
(2)
انظر «شَرْح التَّلْوِيح على التَّوْضِيح» للتَّفْتَازانِيّ (1/ 25)، «التَّحْبِير شَرْح التَّحْرِير» للمِرداوِيِّ (2/ 790)، «المَوْسُوعَة الفِقْهِيَّة» (18/ 66).
(3)
انظر «الفُرُوق» للقَرَافِيِّ (4/ 117).
إن عمل المفتي يتضمن تخريج وتنقيح وتحقيق المناط
(1)
، والأخير هو تنزيل الحكم المعين على الواقع الذي يناسبه، فإن عمر رضي الله عنه قد علم أن من حكم الله إعطاء المؤلفة قلوبهم، ولكنه منع أقوامًا كانوا يُعطَوْن من سهم المؤلفة قلوبهم من قبل؛ وذلك لأنه رأى أن المسلمين لا يحتاجون إلى تأليف قلوب هؤلاء الناس لما أعز الله دينه وأظهره.
هو إذًا لم يغير الحكم وإنما قرر أن مناطه لا يتحقق في الواقع الجديد، فغير الفتوى، فصار هذا الذي يُعطَى بالأمس لا يعطى اليوم. فإن احتاج المسلمون لتأليف قلوبهم بعد ذلك فحكم الله باقٍ ليس يتغير.
أما القول بتغيير الأحكام الشرعية، بمعناها الاصطلاحي عند الأصوليين، فلا أصل له ولا دليل عليه، وإن كان البعض استخدمه يريد به الفتوى كما ذكرت مجَلَّة الأحكام العَدْلِيَّة حيث جاء فيها «لا يُنْكَر تَغَيُّر الأحكامِ بتغيُّر الزَّمان»
(2)
. وعندما يتضح أن مقصود من قال بتغير الأحكام هو تغير الفتوى، أو الحكم في اصطلاح بعض الفُرُوعيين - مع شيء من التجوز - والذي يعرف عند الأصوليين بأثر الحكم، أو الحكم بمعناه
(1)
تخريج المناط هو استخراج علة الحكم، كأن يقترن وصفٌ مناسبٌ بحكمٍ معينٍ في نصوص الشرع فيقال إن هذا الوصف، وليكن الإسكار، علة في التحريم.
وتنقيحه هو إلغاء ما لا يصلح للعلِّيَّة وإضافة ما يصلح، كما في حديث الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان، فليس كونه أعرابيًّا بمؤثر في الحكم، فيُلغى اعتبار هذا الوصف وغيرِه من أوصافِه، ويُثبَت وصف الوِقاع في نهار رمضان، وهل يضاف إليه الأكل والشرب؟ خلاف.
وتحقيقه هو تنزيله على أفراد الواقع، كأن تكون السرقة هي مناط القطع، فيجتهد الفقيه في تحقيق وجودها في النبَّاش؛ أو يجتهد في تحقيق القاعدة الكلية في الفرع، فيحكم بقدر نفقة الولد أو الزوجة. والمثال الأول أولى بتحقيق المناط والثاني أقرب إلى تطبيق النصوص في أفرادها، وإن عده البعض من تحقيق المناط.
انظر «مُذَكِّرَة في أُصُول الفِقْه على رَوْضَة النَّاظِر» لمحمد الأمين الشِّنْقِيطِيّ (ص 292 - 293).
(2)
انظر «دُرَر الحُكَّام شَرْحُ مَجَلَّة الأحْكَام» لعلي حَيْدَر (1/ 47) المادة رقم (39).
اللغوي، والذي يشمل حكم الفقيه - وهو فتواه - أو تلك الأحكام التي مردها إلى العرف والعادة والمصلحة، أو حكم الوقائع عند اختلاف الملابسات المحيطة بها. أقول: عند ظهور ذلك، فساعتها يمكن أن يقال لا مُشاحَّة في الاصطلاح، سيما أن هذا الاصطلاح قد استعمله جهابذة العلماء كالشاطبي
(1)
(2)
وغيره. ويكون توجيه ذلك إذًا ما ذكرنا من قصدِهم بالحكمِ الشرعيِّ مجموعَ الخطابِ والمتعَلَّقَاتِ به.
إننا على يقين أن الحكم بمعناه الأصولي لا يتغير، إذ كيف يتغير خطاب الله
(3)
ومن يملك هذا؟ أو لا يكون هذا هو النسخ؟ وهل لأحد أن ينسخ شيئًا مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ أو
(1)
هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللَّخْمِيّ الغُرْناطِيّ الشهير بالشَّاطِبِيّ، من أهل غُرْناطة: العلامة الفذ، الفقيه الأصولي، الحافظ النظَّار، أول من أفرد علم المقاصد بالتأليف. كان من أئمة المالكية. من كتبه:«المُوَافَقَات في أصول الفقه» «المجالس» شرح به كتاب البيوع من صَحِيح البُخَارِيّ، «الاتفاق في علم الاشتقاق» «الاعتصام» ، وشرح الألفية سماه «المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكَافِية» توفي: سنة 790 هـ. راجع ترجمته في: «الأعلام» للزرِكلِيّ (1/ 75)، «مُعْجَم المؤلفين» لرضا كحَالة (1/ 118).
(2)
قال رحمه الله: «
…
مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية وغير قبيح فى البلاد المغربية. فالحكم الشرعي يختلف لاختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح
…
واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يُحْكم به عليها». «المُوَافَقَات» (2/ 284 - 286).
(3)
قال العَطَّار رحمه الله: «وتغير الحكم محال، لأنه خطاب الله أي كلامه النفسي القديم» «حَاشِيَة العَطَّار على شرح جلال الدين المَحَلِّي» (1/ 161). وهو متين دون قوله: «أي كلامه النفسي القديم» ، لأن خطاب الله في القرآن كلامه لفظًا ومعنىً، والحكم يغيره الله بالنسخ.
لا يكون ذلك تحريفًا كتحريف أهل الكتاب لكتبهم، حيث زعموا أن أحبارهم ورهبانهم قد يغيرون من أحكام دينهم ما يرون، وهم في ذلك مؤيدون بروح القدس!؟
ألم يعِبِ الله عز وجل عليهم هذا حيث قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه أن ذلك كان باتباعهم إياهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال
(1)
.
ثم ألا يكون ذلك عين ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من أحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما ليس مِنْه فَهُو رَدٌّ»
(2)
.
علمنا إذًا أن الأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل، ولكن فتوى المفتي التي تتضمن اختيار الحكم الأمثل للواقعة قد تتغير، فإن تحقيق المناط هو من الاجتهاد الذي لا يتوقف إلى أن تفنى الدنيا كما صرح بذلك الشاطبي رحمه الله حيث قال:«الاجتهاد على ضربين: أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف وذلك عند قيام الساعة، والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهذا الذي لا خلاف فيه بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدرَكه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محَله»
(3)
.
وإن الواقع المعين قد تناسبه أحكامٌ مختلفةٌ مِن وجوهٍ، فيختار المجتهد أنسبها له. وقد يتنازعه أصلان أو حكمان فيُلحِقه الحاكم بأقربهما إليه في المعنى والمبنى، وإن كان اعتبار المعنى مقدمًا عند التعارض استحسانًا.
(1)
«سُنَن البَيْهَقِيّ الكُبْرَى» كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي (10/ 116).
(2)
«صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جَوْر فالصلح مردود (2/ 959)، «صَحِيح مُسْلِم» كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد المحدثات (3/ 1343).
(3)
«المُوَافَقَات» للشَّاطِبِيّ (4/ 64 - 65).
وللتمثيل على ذلك، فإن بعض أهل العلم قد فهم من حديث ابن عباس عن إمضاء عمر رضي الله عنه ثلاث الطلقات بثلاث، أنه رضي الله عنه قد نظر فوجد الناس قد تَتَايعوا في طلاق الثلاث، وهو عمل محرم، فأراد - كونه وليَّ الأمر - أن يعاقبهم على ذلك، فأمضاه عليهم الثلاثَ بثلاثٍ. ولم يذكر لنا التاريخ أن ضررًا عظيمًا حصَل جرَّاء ذلك في زمنه رضي الله عنه. ولكنْ، تطاول الزمان وتغير الناس وانتشرت مشكلة التحليل، لطيش الناس وسفههم وإسراعهم إلى التلفظ بالطلاق، فنظر الإمامان ابن تَيمِيَّة
(1)
وابن القَيِّم
(2)
- رحمهما الله - إلى هذا الحال ورأيا أن الأصلح لواقع الناس هو الرجوع إلى الأصل وإيقاع الثلاث بواحدة. يقول ابن القَيِّم رحمه الله عن ذلك الواقع:
«فَصْلٌ [وجه تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال] إذا عُرِف هذا، فهذه المسألة
(1)
هو: تقي الدين أبو العباس أحمد بن المفتي عبد الحليم بن المجد أبي البركات عبد السلام، الحَرَّانِيّ الدِّمَشْقِيّ، الحنبلي، ابن تَيمِيَّة: الإمام المجدد، الحافظ المحقق، الفقيه المدقق، العالم العامل، المجاهد الفاضل، شيخ الإسلام. ولد في حران سنة 661 هـ، وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والفقه والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان. أما تصانيفه، فهي كثيرة مباركة منها:«السياسة الشرعية» «الفَتَاوَى» «منهاج السنة» ، وتوفي: سنة 728 هـ. راجع ترجمته في: «المَقْصد الأرْشَد» (1/ 132)، «البِدَايَة والنِّهَايَة» (13/ 303)، «شَذَرَات الذَّهَب» (3/ 80).
(2)
هو: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرْعِيّ الدِّمَشْقِيّ الحنبلي، المعروف بابن القَيِّم، الفقيه المحدث، والمفسر المؤرخ، من أركان الإصلاح الإسلامي الربانيين، وأحد كبار العلماء العاملين، والنساك المحققين. مولده في دمشق سنة 691 هـ. تتلمذ للإمام ابن تَيمِيَّة، وهو أولى تلاميذه به. ووفاته: بدمشق سنة 751 هـ؛ ألف تصانيف كثيرة منها: «إعْلام المُوَقِّعِين» «الطُّرُق الحُكمِيَّة في السياسة الشرعية» «مفتاح دار السعادة» «زاد المعاد» «مدارج السالكين» «الفروسية» «طب القلوب» «الوابل الصيب من الكلم الطيب» . راجع ترجمته في: «شَذَرَات الذَّهَب» (3/ 168)، «المَقْصد الأرْشَد» (2/ 384)، «البِدَايَة والنِّهَايَة» (14/ 234).
[وقوع الطلقات الثلاث بثلاث] مما تغيرت الفتوى بها بحسَب الأزمنة كما عَرَفْت، لما رأته الصحابة من المصلحة، لأنهم رأوا مفسدة تتايُعِ الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع. ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول صلى الله عليه وسلم فاعله مفتوحا بوجهٍ ما، بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه، وتوعَّد عمر فاعله بالرجم، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره. وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، وقُبْح ما يرتكبه المحللون مما هو رَمَدٌ بل عمىً في عين الدين وشجىً في حلوق المؤمنين، من قبائح تُشمِت أعداء الدين به، وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رَسمَه، وغيرت منه اسمه، وضَمَّخ التَّيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل»
(1)
.
وليس المراد من إيرادنا هذا النص قضية وقوع الثلاث بواحدة أو ثلاث، فهذه مسألةٌ دون تحريرِ الراجح فيها تسويدُ المجلدات
(2)
، ولا مرادنا أن عين هذه المسألة أصلح مثالٍ على ما نحن فيه، فهي نفسُها محَلُّ نزاع، ولكنَّ الناظرَ بإنصافٍ في كلام الإمام ابن القَيِّم رحمه الله يرى نظرة الفقيه المدرك أن شرع الله مبناه على المصلحة، ثم هو يراعي نظرة غير المسلمين إلى الإسلام، وانصدادَ بعضهم عن الدخول في الدين من أجل تفشي مشكلة التحليل بين المسلمين.
(1)
«إعْلام المُوَقِّعِين» لابن القَيِّم (3/ 40).
(2)
للمزيد، انظر كلام العلامة ابن القَيِّم في «زاد المعاد» فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة (5/ 241). ولمطالعة رأي مخالفيه، انظر كلام العلامة محمد الأمين الشِّنْقِيطِيّ في «أضواء البيان» عند تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
…
} [البقرة: 229](1/ 104).
وإن من جنس ذلك في أيامنا ما يأخذه غير المسلمين أو العلمانيون على النظام القضائي الإسلامي المعاصر لإهماله - في بعض التطبيقات - الطِّبَّ الشرعي مهما قويَت دِلالته. والأخذ به ليس تحريفًا لطرق الإثبات في القضاء، بل ردُّ العادة والعرف والحال الجديد إلى الأصل الشرعي الذي يناسب ذلك كله، والذي يقضي بألا نطرح اليقين من أجل الظن، وأن الإعمال أولى من الإهمال، سيما عندما يكون المقصودُ إقامةَ العدل وتحري الحقيقة.
ونختِم هذه الفِقْرة بقول الإمام الشاطبي رحمه الله في «الموافقات» : «إن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبديٌّ لو فُرِض بقاءُ الدنيا إلى ما لانهاية، والتكليف كذلك، لم يُحتَج في الشرع إلى مزيد. ومعنى الاختلافِ أن العوائدَ إذا اختلفت رجَعَت كل عادةٍ إلى أصل شرعي يحكم بها
…
فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق»
(1)
.
* * *
(1)
«المُوَافَقَات» للشَّاطِبِيّ (2/ 217)