الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* * *
كيف تتغير الفتوى بتغير المعارف والصناعة الطبية
؟
كما ذكرنا، إن لتغير الفتوى ضوابطَ تجب مراعاتها. وهنا نبين المقصود من تغير الفتوى بتغير المعارف الطبية.
ولنبدأ ببيان أن تطور المعارف والصناعة الطبية لا ينقض، ولا يتصور أن ينقض، نصّا صريحًا صحيحًا أو إجماعًا منعقدًا معتبرًا؛ وذلك أن آيات الله الكونية والشرعية لا تتعارض ولا تتناقض، بل تتعاضد وتتوافق، والأدلة على ذلك لا تحصى، وليس المقام يتسع لسردها
(1)
.
وكذلك، فإن الإجماع المنعقد المعتبر لا يمكن أن يظهر خطؤه، فإنه لا تزال طائفة من أمة محمد على الحق ظاهرة. ولكن نقل الإجماع لا يعني الإجماع إذا ثبت وجود المخالف، وقد يشتهر القول حتى يظنه البعض إجماعًا وهو ليس كذلك، كما هو معروف عند أهل الفقه والأصول.
إذًا فماذا نعني بتغير الفتوى بتغير المعارف الطبية؟
قد يختلف أهل العلم في المسألة الواحدة على أقوال فنرجح منها ما ظهر عليه الدليل من الواقع، وليس هذا بعيب فإنهم كانوا ينتصرون لأقوالهم بالتدليل والتعليل، والأخير قد يكون من الواقع والمُشاهَد.
مثال ذلك اختلافهم حول أقل وأكثر الحمل والنفاس والحيض والطهر وهل تحيض الحامل وهل يكون الولد من ماءين، فنرجح ما ثبت طبيًّا صوابه على ما ثبت خطؤه، فإن تطور العلوم الطبية أثبت بعض الخطأ في تقديرات بعض فقهائنا - رحمهم الله تعالى -
(1)
فلتراجع في مظانها ككتب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية.
فلقد بذلوا وسعهم في تحقيق مناط الأحكام الشرعية وتنزيلها على واقع الناس ومعالجة قضاياهم في ضوء الكتاب والسنة، فجزاهم الله عن أمة الإسلام خير الجزاء، إلا أن الكتاب والسنة معصومان، وتقديرات الفقهاء - وهم بشر - غير معصومة، فلا عيب إذًا أن يخطئوا تبعًا لخطأ أطباء عصرهم، لأنهم سألوا «أهل الذكر» في الطب بأزمنتهم كما كان ينبغي عليهم؛ ولكن يكون عيبًا أن يُثبَت الخطأ ونَسْتكبرَ عن تصحيحه، فإن القول مثلًا بأن أكثر الحمل عامان كما هو مذهب الحنفية
(1)
أو أربعةٌ كما هو مذهب الشافعية
(2)
أمر قد تحقق خطؤه مع تقدم العلوم الطبية
(3)
.
مثل هذه الأقوال وغيرها ينبغي - في تقديري - الرجوع عنها، لأنها لم تكن بتوقيف من الشارع، وإن حاول البعض الانتصار لما رجحه بما فهمه من أدلة الوحي. لقد كانت آراؤهم في أغلب هذه الأمور مبنيةً على استقراءٍ وملاحظةٍ منهم للواقع ثبَت من غير شك خطؤها.
كذلك، فإن تغير المعارف والصناعة الطبية قد يحدثان تغيرًا في أبواب الوسائل. فكما قدمنا، عمل الأولون بالقِيافة في إثبات النسب، بل وبالقُرعة أحيانًا، لتشوف الإسلام إلى إثباته، فالواجب علينا أن نعمل الآن بالبصمة الوراثية، وهي أدق بلا نزاع من القيافة والقرعة.
وليس هذا عدوانًا على الشريعة ولا عيبًا فيها بل عين مقتضاها وجري على قواعدها وعلى عمل الأولين الذين اجتهدوا لإثبات الحقوق بكل ما لديهم من وسائل.
(1)
«الهِدَايَة شَرْحُ البِدَايَة» للمَرْغِينانِيّ (2/ 35).
(2)
«أسْنَى المَطَالِب» للأنصَارِيّ (3/ 393).
(3)
انظر «دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة» (1/ 176)، وفيه تقرير أن أكثر مدة للحمل مع الاحتياط 330 يوما.