الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الْقُضَاةِ وَيَحْتَوِي عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ] [
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ أَوْصَافِ الْقُضَاةِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ أَوْصَافِ الْقُضَاةِ وَسَيُبَيَّنُ فِي هَذَا الْفَصْلِ شَيْئَانِ.
الْأَوَّلُ: أَوْصَافُ الْقَاضِي: أَوَّلًا - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فِيهِمَا مُسْتَقِيمًا أَمِينًا مَكِينًا مَتِينًا اُنْظُرْ الْمَادَّةَ الْآتِيَةَ. ثَانِيًا - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاقِفًا عَلَى الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَعَلَى أُصُولِ الْمُحَاكَمَةِ وَمُقْتَدِرًا عَلَى فَصْلِ وَحَسْمِ الدَّعَاوَى الْوَاقِعَةِ تَوْفِيقًا لَهُمَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ مَفْقُودَةً فِي الْقَاضِي وَنُصِّبَ قَاضِيًا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ لَائِقٍ لِلْقَضَاءِ، وَحَكَمَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ يَصِحُّ حُكْمُهُ. الثَّانِي: شُرُوطُ الْقَاضِي وَالشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَادَّةِ (1794) فَإِذَا كَانَ الْقَاضِي غَيْرَ حَائِزٍ لِتِلْكَ الشُّرُوطِ فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ كَمَا سَيُبَيَّنُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمَوَادِّ الْآتِيَةِ: وَحَيْثُ إنَّ أُمُورَ الْقَضَاءِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْعَامَّةِ، وَاحْتِيَاجَ النَّاسِ لَهُ عَظِيمٌ فَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ الْقُضَاةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْيِينُ كُلِّ أَحَدٍ قَاضِيًا وَيَجِبُ وُجُودُ بَعْضِ شُرُوطٍ، وَأَوْصَافٍ فِي الْقَاضِي الْجَوْهَرَةُ بِزِيَادَةٍ.
الْمَادَّةِ (1792)(يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حَكِيمًا فَهِيمًا مُسْتَقِيمًا، وَأَمِينًا مَكِينًا مَتِينًا) حَكِيمٌ - بِمَعْنَى الشَّخْصِ الْمُتَّصِفِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْحِكْمَةُ تَأْتِي بِمَعَانٍ عَدِيدَةٍ كَالْعَدْلِ وَالتَّقْوَى وَالْعَدْلِ، وَيَجُوزُ هُنَا إرَادَةُ الْمَعَانِي الثَّلَاثِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حَكِيمًا أَيْ عَادِلًا؛ لِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُوَجَّهَ الْقَضَاءُ لِغَيْرِ الْعَادِلِ كَمَا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ فِي أَحْكَامِهِ قَبُولُ الْقَضَاءِ كَمَا بُيِّنَ آنِفًا. وَالْعَدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ هُوَ عَدَمُ الْجَوْرِ، وَالْإِنْصَافُ فِي الْحُكْمِ. وَبِتَعْبِيرٍ آخَرَ
إنَّ الْعَدْلَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاضِي هُوَ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ وَبِالنِّسْبَةِ لِلْوَالِي هُوَ الْإِنْصَافُ بِدُونِ غَدْرٍ. وَالْعَادِلُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ الْبَابِ الثَّانِي وَيُطْلَقُ تَعْبِيرُ عَدْلٍ عَلَى الرَّجُلِ الْوَدُودِ. قَاضٍ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حَكِيمًا أَيْ مُتَّقِيًا وَصَالِحًا غَيْرَ فَاسِقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ الْفَاسِقُ عَلَى الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ لِفِسْقِهِ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ فِي دِينِهِ كَمَا بُيِّنَ نُبْذَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَكَمَا سَيُفَصَّلُ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (1794) .
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي حَكِيمًا أَيْ عَاقِلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ وَالنَّفْسُ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ (الْكُلِّيَّاتُ) . وَالْعَقْلُ بِتَعْرِيفٍ آخَرَ هُوَ نُورٌ رُوحَانِيٌّ تُدْرِكُ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِهِ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ يَبْتَدِئُ وُجُودُهُ حِينَمَا يَسْتَكْمِلُ الْجَنِينُ خِلْقَتَهُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ وَيَنْمُو تَدْرِيجًا حَتَّى الْبُلُوغِ. فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُوَجَّهَ الْقَضَاءُ إلَى نَاقِصِ الْعَقْلِ أَوْ لِلْأَحْمَقِ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَقَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ لَوَازِمِ الْعَدْلِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَالْحُمُقُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْمِيمِ بِمَعْنَى قِلَّةِ الْعَقْلِ. الْأَحْمَقُ بِوَزْنِ أَحْمَرَ صِفَةٌ مِنْ الْبَابِ الْخَامِسِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَافِلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ، وَالْحَسَنَ مِنْ السَّيِّئِ. وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحُمْقِ هِيَ طُولُ اللِّحْيَةِ، وَالتَّلَفُّتُ إلَى الْجَوَانِبِ كَثِيرًا، وَالْعَجَلَةُ فِي الْأُمُورِ بِدُونِ النَّظَرِ إلَى عَوَاقِبِهَا وَنَتَائِجِهَا وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عِيسَى عليه السلام أَنَّهُ قَالَ:(إنَّنِي أَبْرَأْتُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَمَّا الْأَحْمَقُ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُبْرِئَهُ) أَبُو السُّعُودِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ دَوَاءَ الْحُمْقِ هُوَ الْمَوْتُ وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَحْثِ الْكِنَايَاتِ مِنْ الْمُطَوَّلِ بِأَنَّ عَرْضَ الْقَفَا وَعِظَمَ الرَّأْسِ بِصُورَةٍ مُفْرِطَةٍ تَدُلُّ عَلَى بَلَاهَةِ الرَّجُلِ. (فِيهِمَا) مِنْ الْفَهْمِ بِوَزْنِ وَهْمٍ أَمَّا الْفَهِمُ بِوَزْنِ الْكَتِفِ فَتُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ الْفَطِينِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِيمًا أَيْ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْفِقْهِ بَلْ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ وَآثَارِهَا (الزَّيْلَعِيّ) .
وَلَا يَلِيقُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ الْقَضَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام حِينَمَا قَلَّدَ قَضَاءَ الْيَمَنِ مُعَاذًا امْتَحَنَهُ سَائِلًا إيَّاهُ: بِمَاذَا سَتَحْكُمُ يَا مُعَاذُ؟ فَأَجَابَهُ مُعَاذٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَاذَا تَحْكُمُ؟ . فَأَجَابَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَقَالَ: وَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ؟ . فَأَجَابَهُ أَجْتَهِدُ. فَقَالَ لَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُهُ» (الْوَلْوَالِجِيَّةِ) وَلَمْ يَذْكُرْ مُعَاذٌ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ 2 الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ عليه السلام حُجَّةً (فَتْحُ الْقَدِيرِ) . وَلَمَّا كَانَ الْقَاضِي مَأْمُورًا بِالْحُكْمِ وَفْقًا لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَيَقْتَضِي لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ مَحْدُودَةٌ وَالنُّصُوصَ مَعْدُودَةٌ فَلَا يَجِدُ الْقَاضِي نَصًّا لِتَطْبِيقِهَا فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَيَحْتَاجُ لِاسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى مِنْ النُّصُوصِ، وَلَا يَتَيَسَّرُ ذَلِكَ إلَّا لِلْعَالِمِ الِاجْتِهَادِيِّ (الْوَلْوَالِجِيَّةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ آدَابِ الْقَاضِي) .
فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْجَاهِلِ أَلَا يَقْبَلَ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ» وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْقَاضِيَيْنِ هُوَ الْقَاضِي الْجَاهِلُ الَّذِي يَحْكُمُ عَنْ جَهْلٍ - وَالْقَاضِي الْعَالِمُ الَّذِي يَحْكُمُ عَنْ جَوْرٍ. وَقَوْلُ الْمَجَلَّةِ فِي الْمَادَّةِ الْآتِيَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَاقِفًا عَلَى الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَعَلَى أُصُولِ الْمُحَاكَمَةِ، وَمُقْتَدِرًا عَلَى فَصْلِ وَحَسْمِ الدَّعَاوَى تَطْبِيقًا لَهُمَا هُوَ لِإِيضَاحِ الْفَهْمِ وَتَفْصِيلٍ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. وَكَمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالْفِقْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَارِّ ذِكْرُهُ يَجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ يُدْرِكُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ (الزَّيْلَعِيّ) . وَلِذَلِكَ قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ اعْرَفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ (الْوَلْوَالِجِيَّةِ) .
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِيمًا أَيْ فَطِينًا، وَأَنْ يَسْتَجْمِعَ أَثْنَاءَ الْمُحَاكَمَةِ فَهْمَهُ وَذِهْنَهُ؛ لِأَنَّ فَصْلَ الْخُصُومَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفَهُّمِ كَلَامِ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُحْتَمَلِ حِينَمَا يُقَرِّرُ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ أَنْ يَلْفِظَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالٍ فِي دَعْوَاهُ وَفِي هَذَا الْحَالِ لَوْ أُثْبِتَتْ الدَّعْوَى بِشُهُودٍ فَلَا يَحْكُمُ بِهَا. كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَفُوهَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِكَلَامٍ يُعَدُّ إقْرَارًا، وَفِي هَذَا الْحَالِ لَا يَحْتَاجُ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي فَعَلَيْهِ إذَا لَمْ يَسْتَجْمِعْ الْقَاضِي فَهْمَهُ وَيُبَالِغْ فِي اسْتِمَاعِ كَلَامِ الطَّرَفَيْنِ وَيَقِفْ عَلَى مَعْنَى أَقْوَالِهِمَا تَضِيعُ إفَادَاتُهُمَا وَلَا يَحْصُلُ فَائِدَةٌ مِنْهَا وَلِهَذَا السَّبَبِ قَدْ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَائِلًا الْفَهْمَ الْفَهْمَ وَقَدْ كَرَّرَ الْكَلَامَ لِلتَّأَكُّدِ قَائِلًا فَرِّغْ خَاطِرَك وَفَهْمَك حَتَّى تَفْهَمَ الشَّيْءَ الْمَطْلُوبَ (الْوَلْوَالِجِيَّةِ) . وَإِنَّ قَوْلَ الْمَجَلَّةِ فِي الْمَادَّةِ 4 (1812) يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَلَا يَتَصَدَّى لِلْحُكْمِ إذَا تَشَوَّشَ ذِهْنُهُ بِعَارِضَةٍ مَانِعَةٍ لِصِحَّةِ التَّفَكُّرِ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَيُشَارُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فَهِيمًا بِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ فَهِيمًا أَيْ عَالِمًا بَلْ كَانَ جَاهِلًا جَازَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَهَذَا يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِفَتْوَى الْغَيْرِ أَيْضًا (مَجْمَعُ الْأَنْهُرِ) حَتَّى إنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَّقِيَ أَوْلَى مِنْ الْقَاضِي الْعَالِمِ الْفَاسِقِ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْجَاهِلِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مِنْ الْغَيْرِ وَيْحُكُمْ كَمَا جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (1811) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَنْ جَهْلٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي إحْدَى مَعْرُوضَاتِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي السُّعُودِ فِي أَوَائِلِ الْعَهْدِ الْعُثْمَانِيِّ (بِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ تَسَاوٍ فِي الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا بَيْنَ قُضَاةِ زَمَانِنَا فَقَدْ صَدَرَ الْأَمْرُ بِتَرْجِيحِ الْأَفْضَلِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ، وَالْعَدَالَةِ عَلَى غَيْرِهِ) أَمَّا الطَّحْطَاوِيُّ فَيَقُولُ فِي مَعْرِضِ جَوَابِهِ عَلَى أَبِي السُّعُودِ (إنَّ هَذَا التَّسَاوِيَ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ) أَمَّا فِي هَذَا الزَّمَنِ (عَصْرِ الطَّحْطَاوِيُّ) فِي حَالِ عَدَمِ التَّسَاوِي فِي الْعَدَالَةِ فَمَنْ الَّذِي يُرَجَّحُ؟ (الدُّرُّ الْمُخْتَارُ وَرَدُّ الْمُحْتَارِ) . إنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمَّا عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَالْعِلْمُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْقَضَاءِ فَإِذَا فُوِّضَ الْقَضَاءُ لِجَاهِلٍ فَلَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَحُكْمُ الْقَاضِي بَاطِلٌ (الْخَانِيَّةُ) .
مُسْتَقِيمًا - مَأْخُوذٌ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى الِاعْتِدَالِ. يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُسْتَقِيمًا. وَبِمَعْنًى آخَرَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَالًا مُعَانِدًا يَأْخُذُ الْهَدَايَا وَالرِّشْوَةَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ النَّاسِ الْمُخْتَلِّي الشَّرَفِ فَإِذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ النَّاسِ الْمُخْتَلِّي الشَّرَفِ أَيْ بِأَنْ كَانَ مَحْدُودًا بِحَدِّ الْقَذْفِ فَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَتْ فِيهِ صِفَاتٌ مُخِلَّةٌ بِالِاسْتِقَامَةِ كَأَنْ يَكُونَ مُحْتَالًا أَوْ مُعَانِدًا أَوْ مُرْتَشِيًا فَلَا يَنْبَغِي تَوْجِيهُ الْقَضَاءِ إلَيْهِ، وَإِذَا وُجِّهَ إلَيْهِ فَيَنْبَغِي عَزْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ إسْنَادُ الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ إلَى أَشْخَاصٍ مُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ.
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُعْتَدِلًا، وَالْمُعْتَدِلُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ الِاعْتِدَالِ وَهُوَ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِتَوَسُّطِ الْحَالَةِ، كَتَوَسُّطِ جِسْمِ الْإِنْسَانِ بَيْنَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَيِّنًا فِي غَيْرِ ضَعْفٍ عَبُوسًا بِلَا غَضَبٍ وَمُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ وَهْمٍ كَمَا سَيُبَيَّنُ آتِيًا (الْفَتْحُ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي سَيِّئَ الْخُلُقِ، جَافَّ الطَّبْعِ، قَاسِيَ الْقَلْبِ، فَظًّا شَدِيدًا فِي كَلَامِهِ فِي صُورَةٍ فَاحِشَةٍ جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا مُقْبِلًا بِالْغَضَبِ مُعَانِدًا. أَمِينًا: يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ الْمَوْثُوقِ بِهِ وَالْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ الْمَأْمُونِ مِنْ نَقِيصَةِ الضَّرَرِ، وَالْخِيَانَةِ وَعِبَارَةُ الْأَمِينِ الْوَارِدَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ قَدْ فُسِّرَتْ بِمَعْنَى مُؤْتَمَنٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي بَرِيئًا مِنْ نَقِيصَةِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَدَمُ تَوْجِيهِ الْقَضَاءِ إلَى الرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ بِالْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فَإِذَا وُجِّهَ إلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ أَمِينٌ ثُمَّ اتَّصَفَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فَيَجِبُ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي مُوجِبٌ لِعَزْلِهِ وَلَيْسَ بَاعِثًا عَلَى الِانْعِزَالِ (الزَّيْلَعِيّ) . مَكِينًا: بِوَزْنِ فَعِيلٍ يُطْلَقُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ وَعِبَارَةُ مَكِينٍ الْوَارِدَةُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ قَدْ فُسِّرَتْ بِالْمَعْنَى ذِي الْمَكَانَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَكِينًا أَيْ ذَا مَكَانَةٍ وَشَرَفٍ وَلَا يَكُونُ أَرْعَنَ أَوْ مِنْ أَسَافِلِ النَّاسِ، وَأَدَانِيهَا.
مَتِينًا: مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَتَانَةِ، وَالْمَتَانَةُ بِوَزْنِ سَلَامَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ صَلْبًا وَمُحْكَمًا. وَالْمَتِينُ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى. وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ بِمَعْنَى قَوِيٍّ شَدِيدٍ، يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَوِيًّا شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَعَبُوسًا بِلَا غَضَبٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ هُوَ دَفْعُ الْفَسَادِ، وَإِيصَالُ الْحُقُوقِ لِأَرْبَابِهَا، وَإِقَامَةُ حُقُوقِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ، وَأَقْوَى الْوَاجِبَاتِ فَالْأَوْلَى بِالْقَضَاءِ هُوَ الْأَقْدَرُ وَالْأَوْجُهُ وَالْأَهْيَبُ وَالْأَصْبَرُ الَّذِي يَتَحَمَّلُ الْمَصَائِبَ الَّتِي تَأْتِي لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّاسِ (الزَّيْلَعِيّ) . أَمَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي شَدِيدًا بِعُنْفٍ فَهُوَ فَظٌّ وَغَلِيظٌ مَعَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فَظًّا وَغَلِيظًا. وَالْفَظُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ يُطْلَقُ عَلَى سَيِّئِ الْخُلُقِ، وَالْغَلِيظُ يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ الْجَافِّ الطَّبْعِ وَالْقَاسِي الْقَلْبِ (شَرْحُ الشَّمَائِلِ لِعَلِيٍّ الْقَارِيّ) . وَمُقَابِلُ الْفَظِّ وَالْغَلِيظِ أَنْ يَكُونَ ضَحُوكَ الْوَجْهِ حُلْوَ الْكَلَامِ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُعَامِلَ مَنْ يَحْضُرُ أَمَامَهُ بِالْحُسْنَى.