الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثانى [فيما يتعلق بطالب العلم فى نفسه ومع شيخه]
(1)
ينبغى لطالب العلم أن يلزم مع شيخه (2) الوقار والتأدب والتعظيم، فقد قالوا: بقدر إجلال الطالب العالم ينتفع (3) الطالب بما يستفيد من علمه (4).
وإن ناظره (5) فى علم فبالسكينة والوقار وترك (6) الاستعلاء (7).
وينبغى أن يعتقد أهليته ورجحانه، فهو أقرب إلى انتفاعه به، ورسوخ ما يسمعه منه فى ذهنه (8)، وقد قالت الصوفية (9): من لم ير خطأ شيخه خيرا من صواب نفسه لم ينتفع (10) به.
وقد كان بعضهم إذا ذهب إلى [شيخه](11) تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب معلّمى عنى، ولا تذهب بركة علمه منى.
وقال الشافعى (12) - رحمه الله تعالى-: كنت أتصفح الورقة بين يدى مالك (13) -
(1) سقط فى ز.
(2)
فى ز: شيوخه.
(3)
فى م: يستفيد من علمه أى ينتفع.
(4)
فى م: من ذلك.
(5)
أى ناقشه فى مسألة ما، وليس المقصود بها البحث والمناظرة.
(6)
فى ص، د: الاتضاع.
(7)
فلا ينبغى لطالب العلم أن يتكبر على المعلم بوجه من الوجوه بل يتملق له ويتواضع بمخالفته للنفس والهوى فى ذلك.
(8)
ولذا فليكن المتعلم لمعلمه أى بين يديه كالريشة الملقاة فى الفلاة تقلبها الرياح كيف شاءت أو كأرض ميتة جدبة نالت مطرا غزيرا فشربته بجميع أجزائها وعروقها وانقادت بالكلية لقبوله وهذا يستدعى فراغ ذهنه عما يخالفه.
(9)
فى ص، د: السادة الصوفية.
(10)
قال الغزالى فى الإحياء وشرحه (1/ 316): وليدع رأيه وإن كان صوابا فإن خطأ مرشده على الفرض والتقدير أنفع له من صوابه فى نفسه بحسب الظاهر.
(11)
سقط فى د.
(12)
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد المطلبى، أبو عبد الله، الشافعى الإمام العلم، عن: مالك وإبراهيم بن سعد وابن عيينة ومحمد بن على ابن شافع وخلق، وعنه: أبو بكر الحميدى وأحمد بن حنبل والبويطى وأبو ثور وحرملة وطائفة، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر سنين، قال الربيع: كان الشافعى يختم القرآن ستين مرة فى صلاة رمضان، وقال ابن مهدى: كان الشافعى شابا ملهما. وقال أحمد: ستة أدعو لهم سحرا أحدهم الشافعى. وقال: إن الشافعى للناس كالشمس للعالم. وقال أبو عبيد: ما رأيت أعقل من الشافعى.
وقال قتيبة: الشافعى إمام ولد سنة خمسين ومائة وتوفى فى آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، رضى الله عنه.
ينظر: تهذيب التهذيب (9/ 25)، والخلاصة (2/ 377 - 378)، وسير أعلام النبلاء (10/ 5).
(13)
هو مالك بن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحى، أبو عبد الله المدنى، أحد
رحمه الله تعالى- تصفحا رقيقا؛ هيبة له لئلا يسمع وقعها (1).
وقال الربيع (2): والله ما اجترأت أن أشرب الماء و [الإمام](3) الشافعى ينظر إلى هيبة له.
وعن الإمام على بن أبى طالب (4) - رضى الله عنه-: من حق المتعلم أن يسلم على المعلم (5) خاصة، ويخصه بالتحية، وأن يجلس أمامه، ولا يشيرنّ عنده بيده، ولا يغمزنّ بعينه غيره، ولا يقولن له: قال فلان خلاف قولك، ولا يغتابن (6) عنده أحدا (7)، ولا يسارر فى [مجلسه](8)، ولا يأخذ بثوبه، ولا يلح عليه إذا كسل، ولا يشبع من [طول](9)
أعلام الإسلام، وإمام دار الهجرة.
عن نافع والمقبرى ونعيم بن عبد الله وابن المنكدر ومحمد بن يحيى بن حبان وإسحاق ابن عبد الله بن أبى طلحة وأيوب وزيد بن أسلم وخلق. وعنه من شيوخه: الزهرى ويحيى الأنصارى.
قال الشافعى: مالك حجة الله تعالى على خلقه. قال ابن مهدى: ما رأيت أحدا أتم عقلا ولا أشد تقوى من مالك. وقال ابن المدينى: له نحو ألف حديث قال البخارى: أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر. ولد مالك سنة ثلاث وتسعين، وحمل به ثلاث سنين. وتوفى سنة تسع وسبعين ومائة، ودفن بالبقيع.
ينظر: تهذيب التهذيب (10/ 5)، والجرح والتعديل (1/ 11)، وسير أعلام النبلاء (8/ 48).
(1)
فى ص: رفعها.
(2)
هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادى، مولاهم أبو محمد المصرى المؤذن. صاحب الشافعى وخادمه، وراوية كتبه الجديدة. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الذى يروى كتب الشافعى، قال الشافعى: الربيع راويتى. قال الذهبى: كان الربيع أعرف من المزنى بالحديث، وكان المزنى أعرف بالفقه منه بكثير، حتى كأن هذا لا يعرف إلا الحديث وهذا لا يعرف إلا الفقه. ولد سنة ثلاث أو أربع وسبعين ومائة، وتوفى فى شوال سنة سبعة ومائتين، وقد قال الشافعى فيه: إنه أحفظ أصحابى. ينظر طبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (1/ 65) ووفيات الأعيان (2/ 52) وشذرات الذهب (2/ 159).
(3)
سقط فى: د.
(4)
هو على بن أبى طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمى، أبو الحسن، ابن عم النبى صلى الله عليه وسلم وختنه على بنته، أمير المؤمنين، يكنى أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهى أول هاشمية ولدت هاشميّا. له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثا، اتفق البخارى ومسلم على عشرين، وانفرد البخارى بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، شهد بدرا والمشاهد كلها. روى عنه أولاده الحسن والحسين ومحمد وفاطمة وعمر وابن عباس والأحنف وأمم. قال أبو جعفر: كان شديد الأدمة ربعة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان؛ جمعا بين الأقوال. قال له النبى صلى الله عليه وسلم:«أنت منى بمنزلة هارون من موسى» ، وفضائله كثيرة. استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض.
ينظر: تهذيب التهذيب (7/ 334)(565)، وتاريخ بغداد (1/ 133).
(5)
فى د: العالم.
(6)
فى م: ولا يغتاب.
(7)
أى فى مجلسه سواء كان الخطاب له، أو لغيره ممن فى مجلسه لا تصريحا ولا تعريضا.
(8)
سقط فى م.
(9)
سقط فى م.
صحبته.
وقال بعضهم: كنت عند شريك (1) - رحمه الله تعالى- فأتاه بعض أولاد المهدى (2)، فاستند إلى الحائط وسأله عن حديث، فلم يلتفت إليه وأقبل (3) إلينا، ثم عاد، فعاد بمثل (4) ذلك، فقال: أتستخف بأولاد الخلفاء؟ قال: [لا](5)، ولكن العلم أجلّ عند الله أن أضعه (6). فجثا على ركبتيه، فقال شريك: هكذا يطلب العلم.
قالوا: من آداب المتعلم أن يتحرى رضا المعلّم وإن خالف (7) رضا نفسه، ولا يفشى له سرّا، وأن يرد غيبته إذا سمعها، فإن عجز فارق ذلك المجلس، وألا يدخل عليه بغير إذن، وإن دخل جماعة قدموا (8) أفضلهم وأسنّهم، وأن يدخل كامل الهيئة، فارغ القلب من الشواغل، متطهرا متنظفا بسواك وقصّ (9) شارب وظفر، وإزالة كريه رائحة، ويسلم على الحاضرين كلهم بصوت يسمعهم إسماعا محققا، ويخص الشيخ بزيادة إكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف، ففي الحديث الأمر بذلك (10).
(1) هو شريك بن عبد الله بن أبى شريك النخعى أبو عبد الله الكوفى قاضيها وقاضى الأهواز عن زياد ابن علاقة وزبيد وسلمة بن كهيل وسماك وخلق. وعنه هشيم وعباد بن العوام وابن المبارك، وعلى ابن حجر ولوين وأمم قال أحمد: هو فى أبى إسحاق أثبت من زهير. وقال ابن معين: ثقة يغلط.
وقال العجلى: ثقة. قال يعقوب بن سفيان: ثقة سيئ الحفظ. قال الخطيب: حدث عنه أبان بن تغلب وعباد الرواجنى وبين وفاتيهما أكثر من مائة سنة. قال أحمد: مات سنة سبع وسبعين ومائة. له فى الجامع فرد حديث. ينظر خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (1/ 448).
(2)
هو محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن على العباسى، أبو عبد الله، المهدى بالله: من خلفاء الدولة العباسية فى العراق.
ولد بإيذج من كور الأهواز وولى بعد وفاة أبيه وبعهد منه سنة 158 هـ وأقام فى الخلافة عشر سنين وشهرا، ومات فى ما سبذان سنة 169 هـ، صريعا عن دابته فى الصيد، وقيل مسموما. كان محمود العهد والسيرة، محببا إلى الرعية، حسن الخلق والخلق، جوادا، يقال: إنه أجاز شاعرا بخمسين ألف دينار؟ وكان يجلس للمظالم ويقول: أدخلوا على القضاة فلو لم يكن ردى للمظالم إلا حياء منهم لكفى. وهو أول من مشى بين يديه بالسيوف المصلتة والقسى والنشاب والعمد، وأول من لعب بالصوالجة فى الإسلام. وهو الذى بنى جامع الرصافة، وتربته بها، وانمحى أثر الجامع والتربة بعد ذلك. ينظر الأعلام (6/ 221) وفوات الوفيات (2/ 225) ودول الإسلام للذهبى (1/ 86).
(3)
فى د: فأقبل.
(4)
فى م، د: مثل.
(5)
سقط فى ص.
(6)
فى م: أضيعه.
(7)
فى د: يخالف.
(8)
فى م: قدم.
(9)
فى م: وقصر.
(10)
قد أشار النووى فى مقدمة المجموع إلى أن هناك من ينكر الأمر بذلك، إلا أنه قال:«ولا التفات إلى من أنكره» وأشار- رحمه الله إلى أنه قد أوضح هذه المسألة فى كتاب الأذكار. ينظر: المجموع (1/ 67).
ولا يتخطى رقاب الناس، ويجلس حيث انتهى (1) به المجلس، إلا أن يصرح له الشيخ والحاضرون بالتقدم (2) والتخطى، أو يعلم من حالهم إيثار ذلك، ولا يقيم (3) أحدا من مجلسه، فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذه إلا أن يكون فى ذلك مصلحة للحاضرين؛ بأن يقرب [من الشيخ](4) ويذاكره فينتفع الحاضرون بذلك (5)، ولا يجلس وسط الحلقة إلا لضرورة، ولا بين صاحبين إلا برضاهما، وإذا فسح له قعد وضم نفسه، ويحرص (6) على القرب من الشيخ ليفهم كلامه فهما كاملا بلا مشقة، وهذا بشرط ألا يرتفع فى المجلس على أفضل منه، ويتأدب مع رفيقه وحاضرى المجلس؛ فإن التأدب معهم تأدب مع الشيخ (7) واحترام لمجلسه.
ويقعد قعدة المتعلمين لا قعدة المعلّمين؛ وذلك بأن (8) يجثو على ركبتيه كالمتشهد، غير أنه لا يضع يديه على فخذيه، وليحذر من جعل يده اليسرى خلف ظهره معتمدا عليها؛ ففي الحديث:«إنّها قعدة المغضوب عليهم» رواه أبو داود فى سننه (9)، ولا يرفع صوته رفعا بليغا، ولا يكثر الكلام، ولا يلتفت بلا حاجة، بل يقبل على (10) الشيخ مصغيا له (11) فقد جاء:«حدّث النّاس ما رمقوك (12) بأبصارهم» أو نحوه.
ولا يسبقه إلى شرح مسألة أو جواب سؤال، إلا إن علم (13) من حال الشيخ إيثار ذلك ليستدل به على فضيلة المتعلم، ولا يقرأ عند اشتغال قلب الشيخ، ولا يسأله عن شىء فى غير موضعه، إلا إن علم من حاله أنه لا يكرهه، ولا يلح فى السؤال إلحاحا مضجرا، وإذا مشى معه كان عن يمين الشيخ، ولا يسأله فى الطريق، وإذا وصل الشيخ إلى منزله فلا يقف قبالة بابه؛ كراهة (14) أن يصادف خروج من يكره الشيخ اطلاعه عليه، وليغتنم (15) سؤاله
(1) فى م: ينتهى.
(2)
فى م: بالتقديم.
(3)
فى ز: يقم.
(4)
سقط من م.
(5)
فى م: بها.
(6)
فى ص، د، ز: يحترص.
(7)
فى د، ز، ص: للشيخ.
(8)
فى م، ز: وذلك أن.
(9)
أخرجه أحمد (4/ 388) وأبو داود (2/ 679) كتاب الأدب باب فى الجلسة المكروهة (4848) وابن حبان (1956 - موارد) والطبرانى فى الكبير (7/ 378)(7242، 7243) والحاكم (4/ 269) من طريق ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبيه الشريد بن سويد قال: مر بى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدى اليسرى خلف ظهرى واتكأت على ألية يدى فقال: «أتقعد قعدة المغضوب عليهم» وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبى.
(10)
فى د: إلى.
(11)
فى م: إليه.
(12)
فى د، ز، ص: ما رموك.
(13)
زاد فى د: أن.
(14)
فى م: كرهة.
(15)
فى د: ويغتنم.
عند (1) طيب (2) نفسه وفراغه، ويلطف فى سؤاله، ويحسن خطابه، ولا يستحى من السؤال عما أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح، فقد قيل: من رق وجهه عند السؤال، ظهر نقصه عند اجتماع الرجال.
وعن الخليل بن أحمد (3): «منزلة الجهل (4) بين الحياء والأنفة» .
وينبغى له إذا سمع الشيخ يقول مسألة أو يحكى حكاية، وهو يحفظها، أن يصغى إليها إصغاء من لا يحفظها، إلا إذا علم من الشيخ إشارة (5) بأن المتعلم حافظ.
وينبغى أن يكون حريصا على التعلم مواظبا عليه فى جميع أوقاته ليلا ونهارا، وقد (6) قال الشافعى- رحمه الله تعالى- فى رسالته: حق على طلبة العلم بلوغ نهاية جهدهم فى الاستكثار من العلم، والصبر (7) على كل عارض، وإخلاص النية لله تعالى، والرغبة إلى الله تعالى فى العون عليه. وفى صحيح مسلم:«لا يستطاع العلم براحة الجسم» (8).
(1) فى م، ص، د: عن.
(2)
فى م: تطييب.
(3)
صاحب العربية، ومنشئ علم العروض، أبو عبد الرحمن، الخليل بن أحمد الفراهيدى، البصرى، أحد الأعلام. ولد سنة مائة.
حدث عن: أيوب السختيانى، وعاصم الأحول، والعوام بن حوشب، وغالب القطان.
أخذ عنه سيبويه النحو، والنضر بن شميل، وهارون بن موسى النحوى، ووهب ابن جرير، والأصمعى، وآخرون.
وكان رأسا فى لسان العرب، دينا، ورعا، قانعا، متواضعا، كبير الشأن، يقال: إنه دعا الله أن يرزقه علما لا يسبق إليه، ففتح له بالعروض، وله كتاب: العين، فى اللغة.
وثقه ابن حبان. وقيل: كان متقشفا متعبدا. مات سنة بضع وستين ومائة، وقيل: بقى إلى سنة سبعين ومائة. ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 429 - 431)، وطبقات النحويين للزبيدى (47 - 51)، ومعجم الأدباء (11/ 72 - 77)، والكامل لابن الأثير (6/ 50).
(4)
فى م: الجاهل.
(5)
فى د، ز، م: إيثاره.
(6)
فى ص، د: فقد.
(7)
فى د: ونصبر.
(8)
ذكر النووى جل هذه الآداب فى مقدمته للمجموع وزاد عليها: أنه ينبغى لطالب العلم أن يكون حريصا على التعلم، مواظبا عليه فى جميع أوقاته ليلا ونهارا، حضرا أو سفرا، ولا يذهب من أوقاته شيئا فى غير العلم، إلا بقدر الضرورة؛ لأكل ونوم قدرا لا بد منه، ونحوهما كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات، وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثم فوتها، وقد قال الشافعى- رحمه الله فى رسالته: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم فى الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله- تعالى- فى إدراك علمه نصا واستنباطا، والرغبة إلى الله تعالى فى العون عليه. وفى صحيح مسلم عن يحيى بن أبى كثير، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم. ذكره فى أوائل مواقيت الصلاة.
ومن آدابه: الحلم والأناة، وأن يكون همته عالية، فلا يرضى باليسير مع إمكان الكثير، وألا يسوف فى اشتغاله، ولا يؤخر تحصيل فائدة وإن قلت إذا تمكن منها، وإن أمن حصولها بعد ساعة؛ لأن للتأخير آفات، ولأنه فى الزمن الثانى يحصل غيرها، وعن الربيع قال: لم أر الشافعى آكلا بنهار، ولا نائما بليل، لاهتمامه بالتصنيف.
ولا يحمل نفسه ما لا تطيق مخافة الملل، وهذا يختلف باختلاف الناس.
وإذا جاء مجلس الشيخ فلم يجده انتظره ولا يفوت درسه إلا أن يخاف كراهة الشيخ لذلك، بأن يعلم من حاله الإقراء فى وقت بعينه فلا يشق عليه بطلب القراءة فى غيره. قال الخطيب: وإذا وجده نائما لا يستأذن عليه، بل يصبر حتى يستيقظ أو ينصرف والاختيار الصبر، كما كان ابن عباس والسلف يفعلون.
وإذا بحث المختصرات، انتقل إلى بحث أكبر منها مع المطالعة المتقنة، والعناية الدائمة المحكمة، وتعليق ما يراه من النفائس والغرائب وحل المشكلات مما يراه فى المطالعة أو يسمعه من الشيخ. ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها فى أى فن كانت؛ بل يبادر إلى كتابتها ثم يواظب على مطالعة ما كتبه، وليلازم حلقة الشيخ، وليعتن بكل الدروس، ويعلق عليها ما أمكن، فإن عجز اعتنى بالأهم، ولا يؤثر بنوبته، فإن الإيثار بالقرب مكروه، فإن رأى الشيخ المصلحة فى ذلك فى وقت فأشار به امتثل أمره.
وينبغى أن يرشد رفقته وغيرهم من الطلبة إلى مواطن الاشتغال والفائدة، ويذكر لهم ما استفاده على جهة النصيحة والمذاكرة، بإرشادهم يبارك له فى علمه، ويستنير قلبه، وتتأكد المسائل معه، مع جزيل ثواب الله- عز وجل ومتى بخل بذلك كان بضده، فلا يثبت معه، وإن ثبت لم يثمر، ولا يحسد أحدا ولا يحتقره، ولا يعجب بفهمه.
وينبغى أن يطهر قلبه من الأدناس ليصلح بقبول العلم وحفظه واستثماره، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهى القلب» .
وقالوا: تطبيب القلب للعلم كتطبيب الأرض للزراعة وينبغى أن يقطع العلائق الشاغلة عن كمال الاجتهاد فى التحصيل، ويرضى باليسير من القوت، ويصبر على ضيق العيش.
قال الشافعى- رحمه الله تعالى-: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح. وقال- أيضا-: لا يدرك العلم إلا بالصبر على الذل. وقال- أيضا-: لا يصلح طلب العلم إلا لمفلس، فقيل: ولا الغنى المكفى؟ فقال: ولا الغنى المكفى.
وقال مالك بن أنس- رحمه الله: لا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتى يضر به الفقر، ويؤثره على كل شىء.
وقال أبو حنيفة- رحمه الله: يستعان على الفقه بجمع الهمم، ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولا يزيد.
وقال إبراهيم الآجرى: من طلب العلم بالفاقة ورث الفهم. وقال الخطيب البغدادى فى كتابه:
الجامع لآداب الراوى والسامع: يستحب للطالب أن يكون عزبا ما أمكنه؛ لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة، والاهتمام بالمعيشة، عن إكمال طلب العلم، واحتج بحديث:«خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ» ، وهو الذى لا أهل له ولا ولد. وعن إبراهيم بن أدهم- رحمه الله:
من تعود أفخاذ النساء لم يفلح، يعنى: اشتغل بهن. وهذا فى غالب الناس لا الخواص. وعن سفيان الثورى: إذا تزوج الفقيه فقد ركب البحر، فإن ولد له فقد كسر به. وقال سفيان لرجل:
تزوجت؟ فقال: لا، قال: ما تدرى ما أنت فيه من العافية. وعن بشر الحافى- رحمه الله:
«من لم يحتج إلى النساء فليتق الله ولا يألف أفخاذهن» .
قلت: هذا كله موافق لمذهبنا، فإن مذهبنا أن من لم يحتج إلى النكاح استحب له تركه، وكذا إن