الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني في (أحوال تشخيص المرض الجراحي وحكمها)
إذا توصل الطبيب إلى معرفة وجود المرض الجراحي عن طريق التشخيص فإنه لا تخلو تلك المعرفة إما أن تكون على وجه القطع، أو تكون على وجه الظن.
فإن كانت على وجه الظن فإنه لا يخلو الظن بوجود المرض الجراحي، إما أن يكون غالبًا على عدم وجوده، أو يكون مساويًا له، أو يكون دونه.
وعلى هذا فإن العلم بوجود المرض الجراحي لا يخلو من أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يكون على سبيل اليقين.
الحالة الثانية: أن يكون على سبيل غلبة الظن.
الحالة الثالثة: أن يكون على سبيل الشك.
الحالة الرابعة: أن يكون على سبيل الوهم.
ففي الحالة الأولى: لا يكون عند الطبيب الفاحص أي شك في وجود المرض الجراحي، ولا إشكال في جواز الاعتماد على هذا النوع
من التشخيص الذي بلغ أعلى مراتب العلم وهي مرتبة اليقين.
وأما الحالة الثانية: فإنه ينبغي على الطبيب أن يعتمد الاحتمال الراجح الذي يشتمل على وجود المرض الجراحي، ولا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح المشتمل على انتفاء وجوده.
وهذا مبني على ما تقرر في الشريعة الإسلامية من اعتمادها على الظنون الراجحة وعدم التفاتها إلى ما يقابلها من الظنون المرجوحة في تحقيق المصالح، ودرء المفاسد.
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: "الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون .. " إلى أن قال: " .. فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفًا من ندور وكذب الظنون .. "(1) اهـ.
فبين أن الاعتماد إنما يكون على الظن الغالب، وأن ما يقابله من الظن المرجوح لا يلتفت إليه، وبهذا يتقرر أصل هذه الحالة من أحوال تشخيص المرض الجراحي فيقال: إن المنبغي على الطبيب اعتماد الظن الراجح وعدم الالتفات إلى ضده ومن ثم فإنه لا حرج في الإقدام على فعل الجراحة والإذن بها من قبل المريض اعتمادًا على هذا التشخيص المبني على هذا النوع من الظنون القوية.
(1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1/ 4.
وتكون هذه الحالة في حكم الأولي بناء على ما تقرر عند الفقهاء رحمهم الله من أن غالب الظن ملحق باليقين حكمًا (1).
وأما الحالة الثالثة: فإنه ينبغي على الأطباء التوقف عن الإقدام على فعل الجراحة نظرًا لاستواء الاحتمالين في نتيجة التشخيص.
وعليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم في الوصول إلى ما يوجب ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ثم العمل بما ترجح منهما.
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: "وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح .. "(2) اهـ.
فحكم رحمه الله بوجوب توقف الطبيب عن الإقدام على المداواة في حال توقفه عن الرجحان بحيث لم يظهر له ترجيح للمصلحة المترتبة على الفعل وعدمها، وألحق وجوب توقفه في حال استواء الاحتمالين بوجوب التوقف في حال استواء ترتب المصلحة الدينية وعدمه إلى حين وجود المرجح لأحد الطرفين على الآخر.
وبناء على ذلك فإن الحكم في هذه الحالة هو وجوب التوقف إلى أن يظهر رجحان وجود المرض الجراحي على عدم وجوده أو العكس.
(1) قال الإمام زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي رحمه الله: "وغالب الظن عندهم ملحق باليقين وهو الذي تبتني عليه الاحكام يعرف ذلك من تصفح كلامهم في الابواب" اهـ. فبين رحمه الله أن غلبة الظن ملحقة باليقين حكمًا. انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 73.
(2)
قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 6.
وأما الحالة الرابعة: فإنه لا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح المشتمل على وجود المرض الجراحي، بل ينبغي على الأطباء اعتبار الظن الراجح الدال على عدم وجود المرض، كما وجب ذلك في الحالة الثانية حيث لم يلتفت إلى النسبة المرجوحة واعتبرت النسبة الراجحة المشتملة على وجود المرض الجراحي، كذلك هنا ينبغي اعتبار النسبة الراجحة المشتملة على نفي وجود المرض، ومن ثم فإنه لا يجوز للأطباء أن يقدموا على فعل الجراحة في هذه الحالة .. والله تعالى أعلم.
* * *