الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من الإجماع)
من المعلوم أن الجراحة الطبية بهذا الشكل المتطور الذي وصلت إليه الآن لم تكن موجودة عليه في العصور السابقة، وإنما كان الموجود منها نماذج من الجراحة العامة تشتمل على قطع العروق، والحجامة، وبتر الأعضاء.
وهذه النماذج من الجراحة لم ينكرها السلف الصالح ومن بعدهم، بل أجمعوا على جوازها وإباحة فعلها طلبًا لتحصيل المصالح المترتبة عليها.
قال الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (الجد) رحمه الله (1): "لا اختلاف أعلمه في أن التداوي بما عدا الكي من الحجامة، وقطع العروق، وأخذ الدواء مباح في الشريعة غير محظور"(2) اهـ.
وقد نص الشيخ أحمد بن زرّوق المالكي (3) رحمه الله على ذلك
(1) هو الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (الجد) ولد رحمه الله بقرطبة عام 450 من الهجرة، ونشأ بها، وتلقى العلم على فقهاء الأندلس وعلمائها، وكان مالكي المذهب، ويعتبر من كبار فقهاء الأندلس وأئمتها، توفي رحمه الله بقرطبة عام 520 من الهجرة، ومن مؤلفاته: البيان والتحصيل والمقدمات الممهدات.
الديباج المذهب لابن فرحون ص 278، وشجرة النور الزكية لمخلوف ص 129.
(2)
المقدمات الممهدات لابن رشد 3/ 466.
(3)
هو الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرلسي، الفاسي المالكي الشهير بزروق، ولد رحمه الله بفاس سنة 846 من الهجرة، وهو فقيه، محدث، =
أيضًا فقال:
"وأما الفصد والكي فلا خلاف في جوازهما"(1) اهـ.
ومما يؤكد ما سبق من إجماع السلف الصالح على مشروعية التداوي بالجراحة في عصورهم ما تناقلته المصادر التاريخية من حادثة الإمام التابعي الجليل عروة بن الزبير بن العوام رحمه الله تعالى (2)، والتي رواها أبو نعيم (3) رحمه الله بسنده عن الزهري (4) قال: "وقعت في رجل عروة الأكلة، قال: فصعدت إلى ساقه، فبعث إليه الوليد (5)
= توفي رحمه الله بتكرين في طرابلس المغرب سنة 899 من الهجرة، وله مؤلفات منها شرح مختصر خليل في فروع الفقه المالكي، اغتنام الفوائد. معجم المؤلفين لكحالة 1/ 155.
(1)
شرح الرسالة لزروق 2/ 409.
(2)
هو الإمام أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده قصي بن كلاب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها-، وكان عروة أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين، وروى عن خالته عائشة رضي الله عنها، ولد رحمه الله سنة 22 من الهجرة، وتوفي بالفرع من قرى المدينة سنة 93 من الهجرة وقيل 94. وفيات الاعيان لابن خلكان2/ 418 - 421.
(3)
هو الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى الأصبهاني الشافعي، ولد رحمه الله سنة 336 من الهجرة وقيل 334، وكان محدثًا، مؤرخًا، وتوفي بأصبهان سنة 430 من الهجرة، وله مؤلفات منها: حلية الأولياء، ودلائل النبوة، المستخرج على الصحيحين. معجم المؤلفين لكحالة 1/ 282، 283.
(4)
هو: الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ولد رحمه الله سنة 51 من الهجرة. كان إمامًا في الحديث وروايته، وهو شيخ مالك وابن عيينة وغيرهما، كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الآفاق:"عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه". توفي رحمه الله في رمضان سنة 114 من الهجرة، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 317 - 319.
(5)
هو: الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الخليفة =
الأطباء فقالوا: ليس لها دواء إلا القطع، قال: فقطعت، فما تضور وجهه" (1) اهـ.
فهذه الحادثة وقعت لإمام من الأئمة المبرزين المعروفين، واشتهرت في زمانه وما بعده، ومع ذلك فإننا لم نجد أحدًا من أهل العلم رحمهم الله أنكر على هذا الإمام الجليل فعله، بل نجدهم ينصون في كتبهم على جواز فعل هذه الجراحة الطبية عند الحاجة إليه.
وقد عرف المسلمون في العصور التي ازدهرت فيها البلاد الإسلامية نماذج كثيرة من الجراحة، وكانت تجرى للناس من قبل الأطباء (2) بل ألف علماء الطب المسلمون كتبهم المشتملة على عدد كبير من الجراحات الطبية (3)، ومع ذلك فإننا لم نجد من أنكر عليهم ذلك لا في عصرهم ولا فيما بعده من العصور إلى يومنا، ولو وجد ذلك لنقل إلينا لأن الدواعي الموجبة للعناية بنقله متوفرة، ومن أهمها حاجة الناس إلى بيان حكم الشرع في هذه الأمور، وحرصهم على التحذير
= الأموي ولد رحمه الله سنة 50 من الهجرة وبويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه عبد الملك بعهد منه سنة 86 من الهجرة، بنى المسجد النبوي ووسعه، والجامع الأموي، وفتح الهند والسند والاندلس، ودخلت الجيوش الإسلاميه في عهده إلى الصين توفي رحمه الله في سنة 96 من الهجرة. البداية والنهاية لابن كثير 9/ 161 - 166.
(1)
حلية الأولياء للأصبهاني 2/ 179، ومعنى فما تضور وجهه أي لم يتغير.
(2)
الطب الإسلامي د. أحمد طه ص 53 - 64، ودراسات في تاريخ العلوم عند العرب حكمت نجيب ص 69، 70، وفضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية د. عز الدين فراج ص 243 - 251. والطب عند العرب والمسلمين د. محمود الحاج قاسم ص 105 - 171.
(3)
من تلك المؤلفات كتاب الحاوي لمحمد بن زكريا الرازي والتصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي، والاستقسام والإبرام في علاج الجراحات والأورام، لمحمد بن علي القربلياني.
منها لو كانت محرمة.
وقد نقل الإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي رحمه الله الإجماع على مشروعية التداوي (1)، وهو عام شامل للتداوي بالعقاقير وبالجراحة. والله تعالى أعلم.
* * *
(1) الطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص 179.