الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث في (مسائل الطواريء)
تتعلق بهذا المبحث مسألتان مشهورتان:
الأولى: عن حكم نقل الدم لإسعاف المريض أثناء الجراحة.
الثانية: عن حكم الشرع في مخالفة الواقع للتقدير المسبق.
وبيان هاتين المسألتين يتضح في المطلبين التاليين:
المطلب الأول هل يجوز نقل الدم (1) لإسعاف المريض في الجراحة؟
يلجأ الأطباء إلى عملية نقل الدم لمعالجة كثير من الحالات الطارئة التي يصاب فيها المريض بالصدمة الدموية الناشئة عن نزيف الدم من موضع الجراحة.
وفي جل هذه الحالات يعتبر المريض مهددًا بالموت (2)، الأمر الذي يستدعي إسعافه الفوري بنقل دم من شخص آخر ينبغي أن تتوفر فيه من الناحية الطبية شروط معينة، ولهذا ينشأ السؤال عن حكم نقل الدم في هذه الحالات الضرورية هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان جائزًا فما هي شروط جوازه؟ وهل يجوز للإنسان إذا لم يجد من يتبرع له بالدم أن يدفع إليه المال؟.
والجواب: أنه نظرًا لوجود الضرورة الداعية إلى هذا النقل فإنه لا حرج فيه على المريض ولا على الأطباء ولا على الشخص المتبرع (3)
(1) نقل الدم: "هو حقن دم شخص في لمعة وعاء شخص آخر"، وقد أجريت عمليته لأول مرة في فرنسا، وكانت من حيوان لإنسان إنتهت بوفاة المريض وذلك عام 1667، ثم أجريت لأول مرة بنجاح عملية النقل من إنسان إلى إنسان في انجلترا عام 1918 م. الجراحة الصغرى. د. البابولي، د. الدولي 52، 53.
(2)
من الحالات الاضطرارية التي يلجأ فيها إلى نقل الدم حالات النزيف الشديد التي يفقد فيها المريض جزءًا من دمه مثل: الصدمات، والجروح الكبيرة، والحروق، ونزيف الولادة، والتهاب الكليتين المزمن الذي يؤدي إلى هبوط أو فشل كلوي، وأمراض الدم الخبيثة مثل سرطان الدم. فهذه الحالات وأمثالها يعتبر فيها نقل الدم ضروريًا، والمقصود منه إنقاذ الشخص المتبرع له. التبرع بالدم بين الدين والعلم، مقال بمجلة الأمة عدد صفر 1405 هـ.
(3)
نص على هذا الحكم عدد من العلماء المعاصرين. انظر المصادر التالية: مجلة الأزهر المجلد العشرون 742، 743، المختارات الجلية لابن سعدي 327، =
وذلك لما يأتي:
أولاً: لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (1)، فقد دلت هذه الآية الكريمة على فضل التسبب في إحياء النفس المحرمة، ولا شك في أن الأطباء، والأشخاص المتبرعين بدمائهم يعتبرون متسببين في إحياء نفس ذلك المريض التي تعتبر مهددة بالموت في حالة تركها بدون إسعافها بذلك الدم ونقله.
ثانيًا: لورود النص باستثناء حالات الاضطرار ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
وجه الدلالة:
أن هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات الأخرى دالة على نفي الإثم عمن اضطر إلى المحرم، والمريض مضطر إلى إسعافه بالدم فيعتبر داخلاً في هذا الاستثناء، ومن ثم لا حرج عليه في طلبه وقبوله، ولا حرج على الغير في تبرعه وبذله، ولا حرج على الأطباء في قيامهم
= 328، أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية. د. عبد الله الطريقي 411، 413، حكم العلاج بنقل دم الإنسان أو نقل أعضاء أو أجزاء منها: د. أحمد فهمي أبو سنة، بحث منشور بمجلة الفقه الإسلامي السنة الأولى 1408 هـ، العدد الأول ص 32، الاجتهاد الفقهي للتبرع بالدم ونقله. د. مناع القطان بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي السنة الثانية: 1400 هـ العدد الثالث ص 39، نقل الدم وأحكامه الشرعية للصافي 27.
(1)
سورة المائدة (5) آية 32.
(2)
سورة البقرة (2) آية 173.
بتحقيق ذلك عن طريق عملية النقل (1).
ثالثًا: أن المريض لو امتنع من نقل الدم إليه كان متعاطياً للسبب الموجب لهلاكه، وقد حرم الله تعالى عليه تعاطي ذلك السبب كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (3) فلذلك ينبغي عليه قبول التبرع (4).
رابعًا: أنه لا حرج على الشخص المتبرع في إخراج سائل الدم من جسمه، بل إن خروجه يعتبر علاجًا ودواء، ففيه منفعة ومصلحة لبدنه، ولذلك وردت السنة بمشروعية التداوي بالحجامة كما ثبت ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام وفعله (5).
خامسًا: أن نقل الدم في هذه الحالات وأمثالها يعتبر داخلاً في عموم الأمر بالتداوي الذي ثبت في السنة الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام، لأن علاج الصدمة الدموية يتوقف على النقل فقط، ومن ثم أصبح مندرجًا في عموم قوله عليه الصلاة والسلام:"تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داءً إلا وضع لَهُ دواء"(6) فيشرع فعله.
سادسًا: أن بعض الفقهاء رحمهم الله نصوا في كتبهم على جواز التداوي بالدم عند الحاجة إليه، والحاجة موجودة هنا، بل هي أعلى مراتب الحاجة الموجبة للترخيص شرعًا وهي الضرورة (7).
(1) أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية. د. الطريقي 414، 415.
(2)
سورة البقرة (2)195.
(3)
سورة النساء (4) آية 29.
(4)
أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية. د. الطريقي 416.
(5)
تقدم.
(6)
تقدم تخزيجه.
(7)
تبيين الحقائق للزيلعي 6/ 33، الفتاوي الهندية 5/ 311، نقل الدم وأحكامه الشرعية للصافي 17.
سابعًا: أن قواعد الشريعة الإسلامية تقتضي جواز التبرع، إذ من قواعدها أن الضرورات تبيح المحظورات، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والمريض مضطر، ومتضرر، وقد لحقته المشقة الموجبة للهلاك فيجوز نقل الدم إليه (1).
لهذا كله فإنه يجوز نقل الدم والتبرع به للغير، ويعتبر المتبرع والطبيب محسنًا بفعله لما فيه من إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك.
وأما شروط جوازه فهي تنحصر في الشروط الأربعة التالية:
الشرط الأول: أن يكون المريض محتاجًا إلى نقل الدم، ويثبت ذلك بشهادة الطبيب العدل.
الشرط الثاني: أن يتعذر البديل الذي يمكن إسعافه به.
الشرط الثالث: أن لا يتضرر الشخص المنقول منه الدم بأخذه منه.
الشرط الرابع: أن يقتصر في نقل الدم على مقدار الحاجة للقاعدة الشرعية: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها"(2).
وأما إذا لم يجد الإنسان من يتبرع له بالدم إلا بمقابل فإنه يجوز له دفع ذلك المقابل، ويكون الإثم على الآخذ لأن بيع الدم محرم شرعًا لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن ثمن الدم (3)، وإنما جاز للمريض دفع المقابل لمكان الإضرار.
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 76، 83، 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 75، 85، وأشار إلى هذه القواعد الدكتور مناع القطان في بحثه: الاجتهاد الفقهي للتبرع بالدم، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي السنة الثانية، العدد الثالث ص 43.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 86، شرح القواعد الققهية للزرقاء 133.
(3)
رواه البخاري في صحيحه 2/ 8.
قال الإمام النووي رحمه الله عند بيانه لحكم أخذ الأجرة على فعل المحرم: "وكما يحرم أخذ الأجرة في هذا يحرم إعطاؤها وإنما يباح الإعطاء دون الأخذ في موضع ضرورة"(1) اهـ.
فاستثنى رحمه الله من تحريم الإعطاء للحرام ما كان الإنسان مضطرًا إليه، وهذا ينطبق على مسألتنا هنا إذا لم يجد المريض من يتبرع له بالدم إلا بمقابل فيجوز له دفع المقابل والإثم على الآخذ والله تعالى أعلم.
* * *
(1) روضة الطالبين للنووي 5/ 194، 195.