الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع في (موقف الشريعة من جناية الطبيب)
لجسد المسلم وروحه حرمة عظيمة عند الله تبارك وتعالى (1)، دلت نصوص الكتاب العزيز، وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عليها، وحذرت العباد من الاستخفاف بها، وتوعدت من سعى في هلاك الأرواح وتلك الأجساد بغير حق بشديد العذاب وأليمه (2).
لذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على العبث بأجساد الناس، وتغيير خلقتهم السوية التي أوجدهم الله تعالى عليها وامتن بها عليهم، فقال سبحانه:
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ
(1) يلحق بالمسلم الكافر الذمي والمستأمن، لأن لهم حقًا على المسلمين بالذمة والأمان، فلهم ما للمسلم، وعليهم ما على المسلم.
(2)
يشهد لذلك ما ورد من الآيات والأحاديث الكثيرة في النهي عن قتل النفس بغير حق، ومنها قوله سبحانه:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} سورة الأنعام (6) آية 151، وقوله سبحانه:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} النساء (4) آية 29، 35. وقو له سبحانه:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} سورة البقرة (2) آية 195. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكذلك الأحاديث، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس .... " متفق عليه. صحيح البخاري 4/ 188، صحيح مسلم 2/ 98 وقوله عليه الصلاة والسلام: "من حمل علينا السلاح فليس منا" متفق عليه. صحيح البخاري 4/ 187، صحيح مسلم 1/ 44، وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" رواه البخاري في صحيحه 4/ 224، ومسلم 1/ 37.
خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (1).
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} (2).
ولما وجدت الحاجة الداعية إلى التداوي والعلاج بالجراحة أجازت الشريعة الإسلامية لأهل الاختصاص من الأطباء ومساعديهم الإقدام على فعل الجراحة الطبية اللازمة، والتي تشتمل في كثير من صورها على تصرفات مختلفة في أعضاء الإنسان، لكن الشريعة الإسلامية راعت أمرًا مهمًا لابد من الحذر منه، ووضع الزواجر الكفيلة بدفع ضرره، ذلك أن الأطباء ومساعديهم بشر يعتريهم ما يعتري النفس البشرية الضعيفة، فقد يخرجون في بعض الأحيان عن القيود الشرعية ويتجاوزونها معرضين أرواح الناس وأجسادهم للهلاك والتلف المحقق إما طلبًا لعرض الدنيا وجاهها من مال أو شهرة ودعاية، أو إسرافًا وبغيًا واستهتارًا بحرمة تلك الأرواح والأجساد البريئة.
وهذا الصنف من الأطباء وغيرهم كما يعتبر متجاوزًا لحدود الشرع ومحارمه كذلك يعتبر متجاوزًا لواجباته الطبية التي ينبغي عليه التزامها، وأخذ عليه العهد بأدائها على الوجه المطلوب.
لذلك فإن الشريعة الإسلامية الحكيمة العادلة لم تغض الطرف عن هذه النوعية التي تهدد أرواح الناس، وأجسادهم بالهلاك، والتلف، المحقق، بل وضعت الزواجر والعقوبات البدنية والمالية والتعزيرية
(1) سورة التين [1 - 4].
(2)
سورة الانفطار [6 - 8].
المناسبة، وبذلك تكفلت بزجرهم وكف أذاهم عن العباد.
فاعتنى فقهاء الشريعة ببيان القواعد العامة التي تتفرع عنها الأحكام المتعلقة بتضمين الطبيب، بل نجد من الفقهاء من نص على مسائل معينة من الضمان تحمل الطبيب فيها المسئولية كاملة عن نتائج عمله الذي خرج فيه عن الحدود المعتبرة (1).
إن اعتناء فقهاء الإسلام رحمهم الله ببيان موقف الشريعة الإسلامية من تصرفات الأطباء، ومساعديهم الخارجة عن الحدود والضوابط المعتبرة في مجال أعمالهم، فيه دليل بيّن على شمولية أحكام الشريعة الإسلامية وتصوراتها.
ذلك أن فرض وجود هذه النوعية التي تستخف بحرمة الأرواح والأجساد، وتخرج عن الضوابط المعتبرة عند أهل الاختصاص يعتبر ثابتًا حسًا وعقلاً، فيعتبر السكوت عن بيان حكمه قصورًا في التصور برأت منه شريعة الإسلام الخالدة.
كما أن حكم الشريعة بمحاسبتهم، ومؤاخذتهم بإساءتهم، فيه دليل على عدها وإنصافها، ومراعاتها لدفع الأضرار والمفاسد عن العباد وذلك من قواعدها.
فهي لم تطلق العنان لهذه الأيدي الآثمة لكي تعبث بأرواح الناس وأجسادهم وتعرضها للهلاك والتلف المحقق، ولم تترك تصرفاتهم الجانية تمر دون محاسبة عادله توجب النظر فيها، والحكم عليها،
(1) تكملة البحر الرائق للطوري 8/ 33، الدر المختار للحصكفي 2/ 29، بداية المجتهد لابن رشد 2/ 418، تبصرة الحكام لابن فرحون2/ 243، حاشية قليوبي وعميرة 3/ 78، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 12، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/ 377.
وإلزام أصحابها بتحمل تبعاتها، ورد الحقوق المترتبة عليها إلى أصحابها من المرضى، وذويهم كاملة غير منقوصة لا يَظلمُون ولا يُظلَمُون.
وهي بهذا المسلك القويم تخالف ما ذهب إليه بعض فقهاء القوانين الوضعية من إسقاط المسئولية عن الأطباء مطلقًا، وذلك بحجة أن قصد الاعتداء منتف في فعل الطبيب بالكلية، ولا يمكن أن يقصده.
وإذا انتفى قصد الاعتداء فإنه ينتفي وصف الفعل بالجناية، ومن ثم تنتفي مساءلة الطبيب عن فعله لانتفاء موجبها (1).
وهذا التصور من بعض فقهاء القوانين الوضعية يعتبر تصورًا خاطئًا، ذلك لأنه لا خلاف في أن قصد الجناية يعتبر أحد شقي القصد المفترضين في الأعمال المبنية على المقاصد الباعثة على فعلها.
فكل من قام بعمل له قصد باعث على فعله، ولا يخلو ذلك القصد إما أن يكون حسنًا، أو يكون سيئًا وهذا الافتراض لا دليل على انتفاء أحد شقية -وهو القصد السيء- في الطبيب ومساعديه كما لا دليل على انتفاء -القصد الحسن- فيهم، فوجب إبقاء الفرض كما هو، والعمل بالدلائل والأمارات الظاهرة الموجبة لترجيح أحد القصدين على الآخر.
وهذا هو ما راعته الشريعة الإسلامية، فإن الأطباء ومساعديهم
(1) هذا المذهب أخذ به بعض فقهاء القوانين الوضعية من الألمان، ومنهم ستوس حيث نفوا عن عمل الطبيب صفة الاعتداء لانتفاء قصده له بالكلية، وقد نقل ذلك مترجمًا عن بعض المصادر الأجنبية. انظر: المسئولية الطبية في قانون العقوبات د. فائق الجوهري ص 97، المسئولية الجنائية للأطباء د. أسامة عبد الله قايد ص 111، المسئولية الطبية المدنية الجزائية بسام محتسب بالله ص 340.
بشر يعتريهم ما يعتري البشر وليس بمستحيل لا عقلاً ولا حسًا أن يتعرضوا للمغريات والدوافع السيئة التي توجب صرفهم عن المقاصد الحسنة إلى ضدها.
وعلى هذا فإن إلغاء قصد الجناية عند الأطباء ومساعديهم يعتبر ضربًا من المكابرة فيما ثبت اعتباره عقلاً وحسًا أن يتعرضوا للمغريات والدوافع السيئة التي توجب صرفهم عن المقاصد الحسنة إلى ضدها.
وعلى هذا فان إلغاء قصد الجناية عند الأطباء ومساعديهم يعتبر ضربًا من المكابرة فيما ثبت اعتباره عقلاً وحسًا، وإذا ثبت وجود القصد السيء عند الأطباء ومساعديهم ثبتت المسئولية الجنائية لثبوت موجبها (1)، ووجبت محاسبة الطبيب ومساعديه على تلك التصرفات الآثمة ومؤاخذتهم عليها بحسب جرمهم وخطيئتهم.
* * *
(1) يسلم فقهاء القانون الوضعي بترتب المسئولية على وجود القصد الجنائي "للاعتداء" ومرادهم بالقصد الجنائي في الجرائم: "هو ارتكاب الجاني فعل الضرب والجرح عن إرادة عالمًا بأن هذا الفعل يترتب عليه المساس بسلامة الجسد لشخص آخر أو صحته". وعلى هذا فإنه يتركب عندهم من وجود أمرين: أحدهما: العلم بما يترتب على الجريمة من آثار سيئة في الجسد والصحة. الثاني: الإرادة.
انظر: المسئولية الجنائية للأطباء د. أسامة عبد الله قايد ص 119، 120، المسئولية الطبية في قانون العقوبات. د. الجوهري ص 95، 96.