الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول في (الجراحة العلاجية الضرورية)
وهي الجراحة التي يقصد منها إنقاذ المريض من الموت، ويعبر عنها بعض الأطباء بجراحة المحافظة على الحياة، وتشتمل على علاج الحالات والأمراض الجراحية الخطرة التي إذا لم يتم إسعاف المريض بالجراحة اللازمة في الوقت المناسب فإنه سيموت بسببها في فترة وجيزة (1)، ومن أمثلتها ما يلي:
(1)
حالة انفجار الزائدة الدودية (2).
(2)
حالة انفجار الإثني عشر (3).
(3)
حالة انسداد الأمعاء (4).
(4)
حالة انفجار المعدة (5).
(1) السلوك المهني للأطباء. د. التكريتي ص 265.
(2)
الزائدة الدودية: شاخصة أنبوبية يبلغ طولها نحو ثمانية سنتيمترات، وتخرج من القولون الأعور، وهو أوّل جزء من الأمعاء الغليظة، وتقع في الجهة اليمنى من أسفل البطن. الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 169.
(3)
الإثنى عشر: ويسمى "العفج" وهو جزء من الأجزاء الثلاثة التي تشتمل عليها الأمعاء الدقيقة، وهي الإثنى عثر، والصائم واللفائفي. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 168.
(4)
يحدث هذا النوع من الانسداد بسبب الورم، أو الأجسام الغريبة المبتلعة، أو بسبب الانغلاق وغيره. الشفا بالجراحة. د. الفاعور ص 62، 63.
(5)
هذه الحالات الأربع المميتة مثل بها الدكتور عباس راجي التكريتي للحالات الضرورية التي يقصد من علاجها بالجراحة إنقاذ حياة المريض من الهلاك. السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 264، 265.
(5)
حالة نزيف الكبد الحاد (1).
(6)
حالة النزف الصاعق بسبب دوالي المريء (2).
(7)
حالة السطام القلبي الحاد (3).
فهذه الحالات الجراحية تعتبر من أخطر الحالات التي تستوجب العلاج بالجراحة اللازمة في أقرب فرصة ممكنة، بل إن بعضها لا يحتمل التأخير ولو لنصف ساعة فقط.
فعلى سبيل المثال حالة السطام القلبي الحاد، إذا لم يتم إسعاف المريض فيها بالجراحة اللازمة، فإنه سيموت خلال نصف ساعة بعد الإصابة (4).
وإنقاذ حياة المريض الذي هو هدف هذا النوع من الجراحة
(1) الشفاء بالجراحة د. الفاعور ص 133.
(2)
الدوالي: مرض يصيب الأوردة في أجزاء متعددة في الجسم، وينتج عنه تمدد والتواء في الوريد، وضعف في جداره. الموسوعة الطبية العربية د. البيرم ص 143. والمريء هو: العضو الأنبوبي العضلي الذي يحمل الطعام من الفم إلى المعدة ويمتد من البلعوم خلال الصدر حتى يصل إلى المعدة تحت الحجاب الحاجز مباشرة. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1188. وتعتبر هذه الحالة -أي حالة النزف الصاعق بسبب دوالي المريء- من الحالات الجراحية المميتة التي يتم إسعافها بالتدخل الفوري بالجراحة. انظر: جراحة البطن. د. اللبابيدي، د. الشامي ص 363، 365.
(3)
السطام القلبي الحاد: حالة مرضية تحدث بسبب نزف مفاجيء ضمن ورقتي التامور نتيجة جرح ثاقب لعضلة القلب، فتتوقف قابلية القلب عن الاسترخاء، والانقباض الطبيعيتين كما تقل إمكانية استيعابه للدم الوريدي الراجع، وبذلك ينخفض النتاج القلبي والتوتر الشرياني بينما يرتفع الضغط الوريدي. جراحة القلب والأوعية الدموية د. القباني ص 342.
(4)
المصدر السابق ص 342، والوجيز في الجراحة الصدرية والقلبية د. بشير الكاتب ص 361.
العلاجية، يعتبر من أجل المصالح المقصودة شرعًا، لأن مرتبة المحافظة على النفس هي المرتبة الثانية من مراتب الضروريات (1) الخمس التي قصد الشرع المحافظة عليها. قال الإمام الغزالي رحمه الله: "
…
مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" (2) اهـ.
فقوله رحمه الله: "كل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" لفظ عام شامل لكل ما يتحقق به فوات هذه الأصول وما يدفعه.
ومعلوم أن المرض الجراحي المهلك مفوت لأصل النفس فهو مفسدة، والجراحة التي يتم بها علاج ذلك المرض توجب دفع تلك المفسدة فتعتبر متضمنة للمصلحة الشرعية من هذا الوجه.
وإذا أصيب الإنسان بهذا النوع من الأمراض الجراحية الخطيرة التي يخشى عليه الهلاك بسببها فإنه يصير حينئذ مضطرًا، ويبلغ بذلك مقام الضرورة، ولا يشترط في الحكم بكونه مضطرًا أن يصير إلى الحالة التي يشرف فيها على الموت ويقل الأمل في شفائه وعلاجه بالجراحة.
قال الإمام محمد بن جُزَيْ (3) رحمه الله: "وأما الضرورة
(1) الضروريات الخمس هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. المستصفى للغزالي 1/ 287، والموافاقات للشاطبي 2/ 10.
(2)
المستصفى للغزالي: 1/ 287.
(3)
هو: الإمام أبو القاسم محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن جُزَيْ، ولد رحمه الله في ربيع الأول من عام 693 من =
فهي خوف الموت ولا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت
…
" (1).
فبين رحمه الله الحد الذي يصير الإنسان ببلوغه مضطرًا، وهو خوف الموت وأنه لا يتوقف الحكم بكونه مضطرًا على صبره إلى أن يشرف على الموت، ومن ثم فإنه يحكم للمصاب بهذه الحالات وأمثالها بكونه مضطرًا بمجرد الإصابة، وظهور الدلائل والأمارات التي يستهدى بها على وجودها.
وإذا ثبت الحكم بكون المريض يصير مضطرًا إذا أصيب بمرض جراحي مميت، فإنه يتفرع على ذلك الحكم بجواز فعل المحظورات التي قد يتطلبها إنقاذه بالجراحة كالتخدير، وكشف العورة المحتاج إلى كشفها لفحص أو عمل جراحي ونحوها، فهذه الأمور وأمثالها الأصل فيها الحرمة والحظر، ولكن لمكان الضرورة الداعية إلى فعلها حكمنا بجوازها للقاعدة الشرعية التي تقول:"الضرورات تبيح المحظورات"(2).
فمشقة الخوف على النفس تعتبر أعلى درجات المشقة الموجبة للتخفيف في الشريعة الإسلامية، وقد أشار الإمام السيوطي -رحمه
= الهجرة، وهو من فقهاء المالكية، وترجم له الحضرمي بقوله:"كان رجلاً ذا مروءة كاملة حافظاً متفننًا ذا أخلاق فاضلة، وديانة، وعفة، وطهارة، وشهرته دينًا وعلمًا أغنت عن التعريف به، له جملة تآليف في غير فن وبرنامج لا بأس به" اهـ.
قتل شهيدًا رحمه الله. نيل الابتهاج للتنبكتي ص 239.
(1)
القوانين الفقهية لابن جزي ص 94.
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85، وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشري ص 365، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 84، وإيصال السالك للولاتي ص35.
الله (1) - إلى ذلك عند بيانه لمراتب المشقة حيث يقول: " .. الأولى: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس، والأطراف، ومنافع الأعضاء، فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعًا
…
" (2).
وفي هذه الحالة -أي إذا بلغ المريض مقام الاضطرار بحكم إصابته بالمرض الجراحي المميت- يتعين على الطبيب الجراح الذي يستطيع فعل الجراحة التي جعلها الله سببًا لإنقاذ ذلك المريض، يتعين عليه فعلها، ولا يجوز له الامتناع من ذلك.
قال الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله (3) -: "
…
ومما كتبه الله تعالى -أيضًا- علينا استنقاذ كل متورط من الموت إما بيد ظالم كافر، أو مؤمن متعدي، أو حية، أو سبع أو نار، أو سيل أو حيوان، أو من علة صعبة نقدر على معافاته منها، أو من أي وجه كان.
فوعدنا على ذلك الأجر الجزيل الذي لا يضيعه ربنا تعالى الحافظ
(1) هو: الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن محمد السيوطي، ولد رحمه الله بالقاهرة سنة 849 من الهجرة، وتفقه على مذهب الشافعي، ونبغ فيه وفي علوم كثيرة، وكتب فيها أكثر من خمسمائة مؤلف. توفي رحمه الله عام 911 من الهجرة. ومن مؤلفاته: الدر المنثور في التفسير المأثور. الجامع الصغير في الحديث، المزهر في اللغة. معجم المؤلفين لكحالة 5/ 128 - 131.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي ص 80، ومثله في الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 82.
(3)
هو: الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأموي ينتهي نسبه إلى صخر بن حرب بن أمية جد بني أمية، ولد رحمه الله بقرطبة سنة 384 من الهجرة، وكان حافظًا عالمًا لعلوم الحديث وفقهه، شاعرًا أديبًا، اعتمد مذهب داود بن علي الظاهري. توفي رحمه الله في رجب من سنة 479 من الهجرة، وله مصنفات منها: المحلى، الفصل في الملل والنحل، مراتب الإجماع. وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 13 - 17، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي ص 235 - 257.
علينا صالح أعمالنا وسيئه ففرض علينا أن نأتي من كل ذلك ما افترضه الله تعالى علينا" (1) اهـ.
فقوله رحمه الله: "ومما كتبه الله تعالى علينا استنقاذ كل متورط من الموت" فيه دليل على وجوب استنقاذ المسلم لأخيه المسلم من الهلاك والموت إذا كان قادرًا على فعل السبب الموجب لنجاته -بإذن الله تعالى- من ذلك الهلاك.
ثم ذكر رحمه الله الأمثلة ومنها: "العلة الصعبة التي نقدر على معافاته منها".
ومعلوم أن المرض الجراحي المميت يعتبر من أصعب العلل، والطبيب الجراح قادر -بإذن الله تعالى- على معافاة المريض منه، فوجب عليه فعل ذلك.
ولاشك في أن قيام الطبيب بمهمة الجراحة في مثل هذه الحالات الخطيرة المميتة وسعيه بإنقاذ النفس المحرمة يعد من أجَلِّ ما يتقرب به إلى الله عز وجل، لما فيه من تفريج كربة المسلم وإعانته على البر والتقوى، إذ يتقوى بذلك الجسد المعافى، وبزيادة الحياة على الزيادة من طاعة الله عز وجل.
ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما كلب يطيف بركية (2) قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي (3) من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها (4)، فاستقت له به فسقته
(1) المحلى لابن حزم: 11/ 19.
(2)
الركية: البئر وجمعها ركايا. المصباح المنير للفيومي1/ 238.
(3)
البغي: المرأة الزانية. يقال بغت المرأة بغاءً أي زنت. المغرب للمطرزي 1/ 81.
(4)
الموق: الخف. المصباح المنير للفيومي 2/ 585.
إياه فغفر لها به" (1).
فإذا كانت هذه هي عاقبة من سعى في إنقاذ حيوان من الهلاك بسقيه، فإن عاقبة من سعى في إنقاذ النفس الآدمية المحرمة من الهلاك والموت بالعلاج والجراحة أجل عند الله تعالى، وأعظم ثوابًا، والله تعالى أعلم.
* * *
(1) رواه مسلم في صحيحه 4/ 41.