الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان الصبي الذي يوجد فيه نوع تمييز موجبًا للولاية، فمن باب أولى أن يوجبها الجنون الذي لا تمييز فيه.
وهذه الولاية الشرعية على الصبي والمجنون تعتبر دليلاً واضحًا على سمو منهج الشريعة الإسلامية، ويسر أحكامها، لأن كلاً من الصبي والمجنون لو قيل باعتبار إذنهما لأدى ذلك إلى حصول الضرر والغبن لهما في الجراحة التي يأذنان بفعلها (1).
ولو قيل إنه لا يجوز لهما أن يأذنا ولا يجوز لغيرهما أن يأذن عنهما لكونهما ليسا من أهل الإذن، ولابد من انتظار البلوغ والإفاقة لأدى ذلك إلى حصول الضرر والمشقة بهما، وقد يهلكان بالمرض الجراحي قبل البلوغ والإفاقة.
فكان اعتبار الولاية منهجًا وسطًا موجبًا لحصول المصالح، ودفع المفاسد المترتبة على عدمها.
(2) ترتيب الأولياء:
تعتبر قرابة المريض أحق الناس بالإذن بفعل الجراحة اللازمة لمريضهم، وذلك لما جبلهم الله عز وجل عليه من العاطفة الصادقة التي توجب الحرص الشديد على نفع القريب، ودفع الضرر عنه، لذلك فإنه يغلب على الظن قيامهم برعاية مصلحة المريض بالإذن أو عدمه.
وقرابة المريض تختلف مراتبهم، ودرجاتهم من حيث القرب،
(1) لأن كلا من الصبي والمجنون جاهل بمصلحة نفسه ومضرتها، فقد يأذن بفعل جراحة على وجه يوجب الضرر به كان يأذن بقلع ضرسه أو ختانه في زمن يلحقه الضرر بالقلع والختن فيه.
لذلك فإن الحق في ولاية الإذن بالجراحة يعتبر بحسب القرابة وضعفها لوجود من هو أقرب ويعتبر الأبناء أحق القرابة كما هو معلوم من أصول الشرع، فإن التعصيب بالبنوة مقدم على التعصيب بالأبوة (1).
ويلي الأبناء الوالدان إلا أن الأب أقوى ولاية من الأم كما أشار إلى ذلك بعض فقهاء الحنفية رحمهم الله حيث اعتبروا وصي الأب قائمًا مقام الأب في الإذن بختان الصبي، ولم يعتبروا لوصي الأم حقًا في الإذن به (2).
ويقوم مقام الأب الجد وإن علا، ثم الإخوة الأشقاء ثم الإخوة لأب، ثم بنو الإخوة الأشقاء، ثم بنو الإخوة لأب ثم الأعمام الأشقاء ثم الأعمام لأب، ثم بنو الأعمام الأشقاء، ثم بنو الأعمام لأب.
وهذا الترتيب اعتبره العلماء رحمهم الله في الإرث، وهو مبني على مراعاة قوة التعصيب (3).
ونظرًا لكونه مبنيًا على مراعاة قوة القرب فإنه لا مانع من اعتباره في مسألة الإذن هنا لأن الترتيب فيها مبني على قوة القرب كالحال في الإرث، وقد اعتمد الفقهاء رحمهم الله في ترتيبهم القرابة في بعض المسائل على ترتيبهم في الميراث كما في مسألة تكفين الميت وغسله والصلاة عليه (4).
(1) ولذلك يحجب الابن لأب حجب نقصان ولا يحجبه الأب، قال تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} سورة النساء (4) آية 11.
(2)
الفتاوى الهندية 5/ 357.
(3)
شرح الرحبية للمارديني 83.
(4)
المغني لابن قدامة 2/ 482، والمقنع لابن قدامة 1/ 270، 271، والمبدع لابن مفلح 2/ 220، 221، حواشي الشرواني والعبادي على التحفة 3/ 100، وشرح الخرشي على مختصر خليل 2/ 47.
وبناءً على هذا الترتيب فإنه لا يرجع إلى القريب الأبعد في حال وجود من هو أقرب للميت منه.
فلا يرجع للأخ والعم وأبنائهما في حال وجود ابن المريض الأهل، أو أبوه وينبني على اعتبار هذا الترتيب سقوط موافقة ذلك القريب البعيد في حال امتناع من هو أقرب للمريض منه، وكذلك لو امتنع ذلك القريب البعيد ووافق من هو أقرب منه، فإنه تعتبر موافقة القريب، ويسقط امتناعه.
* * *
المقصد الثاني: في أهلية الآذِن
لابد في الشخص الآذن بالجراحة من أن تتوفر فيه أهلية الإذن بها حتى يحكم باعتبار إذنه، ويستوي في ذلك المريض نفسه، ووليه.
وتتحقق هذه الأهلية المشترطة لاعتبار الإذن بوجود أمرين:
أحدهما: البلوغ.
والثاني: العقل.
ومن ثم فإنه لا يعتبر إذن الصبي، ولا المجنون (1)، ولا السكران، فلا يجوز للطبيب أن يقدم على ختان الصبي مثلاً استنادًا على إذنه، وكذلك المجنون، والسكران.
والواجب عليه أن يرجع إلى أوليائهم المُنصَّبين للنظر في مصالحهم، وقد أشار بعض الفقهاء رحمهم الله إلى اعتبار أهلية الشخص الآذن بالجراحة، ومنهم العلامة منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله (2) وذلك في معرض بيانه لعلة عدم إجبار المريض على قلع ضرسه إذا امتنع منه، فقال رحمه الله: "لأن إتلاف جزء من
(1) المراد بالجنون هنا من كان جنونه مطبقًا، أما من كان جنونه غير مطبق بأن كان يفيق أحيانًا ويجن أحيانًا فإنه يعتبر إذنه حال إفاقته دون حال جنونه.
(2)
هو الشيخ منصور بن يونس بن صلاح الدين بن إدريس البهوتي، ولد رحمه الله سنة 1000 من الهجرة وهو من أجلاء فقهاء الحنابلة رحمهم الله وتوفي بالقاهرة سنة 1051 هـ، وله مؤلفات منها: كشف القناع، ودقائق أولي النهى لشرح المنتهى، والروض المربع. معجم المؤلفين، عمر كحالة 13/ 22، 23.
الآدمي محرم في الأصل، وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررًا، وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلاً لذلك" (1) اهـ.
فقوله رحمه الله: "إذا كان أهلاً لذلك" شرط راجع إلى المريض الآذن ومفهومه أنه إذا لم يكن أهلاً لم يعتد بإذنه.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "
…
فإن كان بالغًا عاقلاً لم يضمنه لأنه أسقط حقه بالإذن فيه، وإن كان صغيرًا ضمنه، لأنه لا يعتبر إذنه شرعًا
…
" (2) اهـ.
فأشار رحمه الله إلى أهلية الآذن بذكر شرطيها: البلوغ، والعقل. ثم فرع على ذلك سقوط إذن الصبي وعدم اعتباره شرعًا.
وإذا تقرر أن المريض لا يعتد بإذنه في حال عدم أهليته لذلك، فإنه ينبني على ذلك عدم اعتبار إذن الولي الفاقد للأهلية من باب أولى وأحرى، لأنه بدل عنه.
* * *
(1) كشف القناع للبهوتي 4/ 10.
(2)
تحفة المودود لابن القيم ص 15.