الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني في (تعريف الطب اصطلاحا)
اختلف الأطباء فى بيان حد الطب، وتعريفه الاصطلاحي على ثلاثة أقوال هي:
القول الأول:
هو "علم يعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يعرض لها من صحة وفساد"(1).
ونُسب هذا القول لقدماء الأطباء، ولابن رشد الحفيد (2).
القول الثاني:
هو "علم بأحوال بدن الإنسان يحفظ به حاصل الصحة، ويسترد زائلها"(3).
ونسب هذا القول لجالينوس (4)، ...................
(1) النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة للأنطاكي 1/ 34.
(2)
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي ولد بقرطبة عام 520 هـ، ونشأ بها ودرس الفقه والطب والمنطق وغيرها، توفي بمراكش عام 595 هـ، من مؤلفاته: بداية المجتهد، الكليات في الطب، مختصر المستصفى.
معجم المؤلفين- عمر كحالة 8/ 313.
(3)
النزهة المبهجة للأنطاكي 1/ 34، 35.
(4)
كلوديوس جالينوس (ومعناه الهاديء): وهو من قدماء الأطباء المبرزين ولد في مدينة (برغمش) من أرض اليونان في خريف عام 130 بعد الميلاد وقيل 59، قال عنه ابن جلجل الأندلسي:"لولاه ما بقي الطب ولدرس ودثر من العالم جملة، ولكنه أقام أوده وشرح غامضه، وبسط مستصعبه" اهـ. =
واختاره داود الأنطاكي (1) في تذكرته (2).
القول الثالث:
هو "علم يعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح، ويزول عن الصحة ليحفظ الصحة حاصلة، ويستردها زائلة".
وهذا القول لابن سينا (3).
وهذه التعريفات وإن اختلفت ألفاظها وعباراتها، إلا أنها متقاربة في المعنى والمضمون، لكن يؤخذ على التعريف الأول أنه اعتبر الصحة والمرض فرعين عارضين، والحقيقة والواقع بخلاف ذلك، فإن الصحة تعتبر أصلاً والمرض وحده هو الفرع والعارض الذي يطرأ
= وقال عنه ابن أبي أصبعيه: "
…
كان خاتم الأطباء الكبار المعلمين، وهو الثامن منهم، وأنه ليس يدانيه أحد في صناعة الطب فضلاً عن أن يساويه
…
ولم يجيء بعده من الأطباء إلا من هو دون منزلته ومتعلم منه" اهـ.
وقد ألف في الطب مؤلفات كثيرة منها: كتاب في العصب/العلل والأمراض، مات في صقلية نحو سنة 200 بعد الميلاد وقيل عاش ثمانيًا وثمانين سنة.
طبقات الأطباء لابن جلجل ص 41 - 44، عيون الأنباء لابن أبي أصبعيه ص ْ109 - 142، وتاريخ الطب وآدابه وأعلامه أحمد الشطي ص 88.
(1)
هو داود بن عمر البصير الأنطاكي ولد بأنطاكية، واشتغل بالطب وعلومه، توفي بمكة عام 1008 هـ، وله مؤلفات منها: تذكرة أولي الألباب، النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة، وزينة الطروس في أحكام العقول والنفوس.
معجم المؤلفين عمر كحالة 4/ 140.
(2)
تذكرة أولي الألباب للأنطاكي 1/ 9.
(3)
هو الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البلخي ثم البخاري ولد بخرميش من قرئ بخارى في صفر عام 370 هـ، كان شاعرًا مشاركًا في علوم عديدة وبرز في الطب واشتهر به، ومن مؤلفاته: القانون في الطب، والموجز الكبير في المنطق، لسان العرب في اللغة. معجم المؤلفين، عمر كحالة 4/ 20، انظر قوله في كتابه القانون في الطب 1/ 3.
عليها (1).
وقد اعتبر هذا أصحاب التعريف الثاني والثالث وسلموا من ورود الاعتراض عليهم فأشاروا إلى أن الصحة أصل بقولهم: "يحفظ به حاصل الصحة، ويسترد زائلها"، وقولهم:"ليحفظ الصحة حاصلة، ويستردها زائلة".
وهذه ميزة لكلا التعريفين الثاني والثالث على التعريف الأول.
وامتاز التعريف الثالث بالجمع بين دلالة التعريفين الأول والثاني دون ما اعتراض به على التعريف الأول.
كما امتاز على التعريف الثاني بتحديد وجهة التعرف على أحوال بدن الإنسان حيث خصها بقوله: "من جهة ما يصح، ويزول عن الصحة"، وهذا أبلغ لأنه قيد في المعرف كما سيأتي عند شرح هذا التعريف -إن شاء الله تعالى- ولهذا فإنه من المناسب اختيار هذا التعريف دونهما لشرح مفرداته وبيان محترزاته وبالله التوفيق.
* * *
(1) أشار إلى هذا الاعتراض داود بن عمر الأنطاكي حيث قال بعد ذكره للتعريف الأول: "وفيه فرعية كل من الصحة والمرض" اهـ. النزهه المبهجة، للأنطاكي 1/ 34.
شرح التعريف المختار:
قوله: "علم يتعرف منه":
العلم ضد الجهل، ومعناه إدراك الشيء على حقيقته وهو هنا شامل لفرعي الطب: النظري، والعملي لأنه جنس (1).
قوله: "يتعرف":
أي يتوصل به إلى المعرفة، وهي ضرب من العلم.
وقوله: "منه":
أي بسببه، والضمير عائد إلى العلم، فكأنه قال: "علم يتوصل بسببه إلى معرفة
…
".
وقوله: "أحوال بدن الإنسان":
الأحوال: جمع حال، وحال الشيء طبعه وصفته (2). والمراد به هنا: الصحة والمرض كما درج عليه صاحب التعريف (3)، ويكون جمعها من باب إطلاق الجمع على الاثنين.
وقيل: أحوال بدن الإنسان ثلاثة: صحة، ومرض، وحالة متوسطة بينهما (4).
والمراد بهذه العبارة بيان محل المعرفة، وهي قيد تخرج به العلوم
(1) القانون لابن سينا 1/ 3، الوجيز في الطب لابن النفيس 31.
(2)
المصباح المنير للفيومي 1/ 157.
(3)
القانون لابن سينا 1/ 3.
(4)
عيون المسائل من أعيان الرسائل للحسيني 230.
الأخرى التي لا تتعلق ببدن الإنسان.
وقوله: "من جهة": أي من ناحية.
وقوله: "ما يصح": أي صحته، فما مصدرية، والصحة ضد المرض، وهي هيئة بدنية تكون الأفعال بها لذاتها سليمة (1).
وقوله: "ويزول عن الصحة":
أي ينحرف ويميل عنها، لأن الزوال عن الشيء معناه الميل عنه (2).
والمراد بهذه العبارة القسم الثاني من أقسام أحوال بدن الإنسان وهو المرض الذي يعرض للبدن فيخرجه عن حال الاعتدال والصحة (3).
وهذه العبارة إن قيل: إن أحوال بدن الإنسان حالان فلا إشكال، لأنها دالة على الحالة الثانية المقابلة لحالة الصحة التي أشار لها المعرف في الجملة السابقة، وهي على هذا التقدير موافقة لمذهب المعرف الذي يرى أن أحوال بدن الإنسان حالتان الصحة والمرض (4).
وإن قيل إن أحوال بدن الإنسان ثلاثة فإنها تكون متضمنة للحالتين
(1) المصدر السابق ص 231.
(2)
ومنه زالت الشمس: أي مالت عن كبد السماء. المطلع للبعلي 14.
(3)
ولذلك يعرف المرض بقولهم: "هو ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص". التعريفات للجرجاني ص 142.
(4)
القانون في الطب لابن سينا 1/ 3، وذهب غيره إلى أن أحوال بدن الانسان ثلاثة: صحة، ومرض، وحالة متوسطة بينهما. عيون المسائل من أعيان الرسائل للحسيني 230.
الباقيتين وهما: المرض، والحالة المتوسطة بين الصحة والمرض.
ووجه تضمنها: أن كلتا الحالتين يصح وصفهما بالزوال عن الصحة، وبهذا يندفع الاعتراض الوارد على المعرف من قبل مخالفيه الذين يقولون إن أحوال بدن الإنسان ثلاثة (1).
وخرج بقيد: "من جهة ما يصح ويزول عن الصحة": النظر في بدن الإنسان من حيث طبيعته وهو ما يسمى بالنظر في الطبيعيات (2).
وقوله: "ليحفظ الصحة حاصلة":
اللام للتعليل، أي من أجل حفظ الصحة.
وحفظ الصحة: صيانتها ببذل الأسباب الموجبة لبقائها بإذن الله تعالى.
وحاصلة: حال، أي حفظ الصحة حال وجودها.
وقوله: "ويستردها زائلة":
يستردها: يسترجعها، وذلك ببذل الأسباب الموجبة لرجوعها بإذن الله تعالى، والضمير في "يستردها" عائد إلى الصحة.
وزائلة: حال من قوله يستردها، وزوال الصحة عبارة عن فقدها، والمعنى: يسترد الصحة حال فقدها.
(1) قال ابن سينا: "
…
ثم إنه إن كان هذا التثليث: -أي انقسام أحوال بدن الإنسان إلى ثلاث حالات- واجباً، فإن قولنا: الزوال عن الصحة يتضمن المرض، والحالة الثالثة التي جعلوها ليس لها حد الصحة
…
". القانون في الطب لابن سينا 1/ 3.
(2)
أشار إلى هذا القيد الأنطاكي في كتابه النزهة المبهجة 1/ 34.
والمقصود بعبارة: "ليحفظ الصحة حاصلة، ويستردها زائلة". بيان الغاية من النظر في بدن الإنسان وهي المحافظة على صحة الإنسان حال وجودها، والسعي في ردها حال فقدها، وكل ذلك بتعاطي الأسباب المؤثرة والموجبة لذلك بإذن الله تعالى، وهذه هي غاية الطب وهدفه.
* * *