الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع هل يشترط إذن الوالي بفعل الجراحة الخطيرة
؟
لما كان المقصود من نصب الوالي رعايته لمصالح الأمة بتحصيلها عند فقدها، والمحافظة عليها حال وجودها، فإنه لا شك في شرعية استئذانه في فعل الجراحة الطبية الخطيرة، وذلك لأن هذا النوع من الجراحة يشتمل على أخطار توجب الرجوع إلى ولي الأمر لكي ينظر في عظيم الغرر الموجود فيها، فإن كانت مشتملة على ما يوجب الضرر والمفسدة العامة كان من حقه منع الطبيب، وإذا كانت مشتملة على المصلحة الراجحة أذن له بفعلها.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه "بعث إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه"(1). ومع ذلك لم يستأذن أبيًا.
فدل هذا على أحقية ولي الأمر في الإذن بفعل الجراحة وعدمه.
والمريض قد يتعجل في الإذن بالجراحة الخطيرة، نظرًا لتعجله الشفاء وحرصه على تحصيله، ومن ثم قد يستدرك عليه ولي الأمر بنظره في هذا النوع من الجراحة ما قد يفوت بسبب استعجاله وإقدامه على فعلها بدون ترو وتأمل.
ثم إن الجراحة الخطيرة من شأنها أنها تفضي إلى النزاع إذا انتهت بوفاة المريض -لا سمح الله- وهذا النوع من حق ولي الأمر أن يتحفظ
(1) تقدم تخريجه.
في دفعه قبل وقوعه لئلا يؤدي إلى ضرر بالمجتمع، ونظرًا لذلك فإننا نجد من الفقهاء المتقدمين رحمهم الله من اعتبر إذن ولي الأمر في الجراحة الخطيرة واستحبه. قال الإمام مالك (1) رحمه الله: "
…
إني لأحب للإمام أن يتقدم إلى هؤلاء الأطباء في قطع العروق، وما أشبهه، ألا يقدم أحد منهم على عمله إلا بإذنه، فإني لا أزال أسمع بطبيب قد عالج رجلاً فقطع عرقه، أو صنع به شيئًا فأعنته فمات منه، ولم أره يجعل على الذي عرف بالعلاج فيعالج بما يعرف شيئًا، ولكنه يستحب أن ينهى عن الأشياء التي فيها هلاك الناس إلا بإذن الإمام .. " (2) اهـ.
فبين رحمه الله شرعية الرجوع إلى ولي الأمر في الجراحة الطبية الخطيرة، نظرًا لما يترتب عليها من هلاك الناس، وأن له الحق في نهي الأطباء عن الأشياء التي فيها هلاك للناس، ويعرف ذلك عن طريق سؤاله لأهل الخبرة، كما بين ذلك الإمام ابن رشد الجد رحمه الله في شرحه لكلام الإمام مالك المتقدم بقوله رحمه الله:
"وإذا تقدم السلطان إلى الأطباء ألا يداوي أحدهم ما يخاف منه، وفيه غرر إلا بإذنه فوجه العمل في ذلك إذا استؤذن أن يجمع أهل تلك الصناعة، فإن رأوا أن يداوي العليل بذلك الدواء المخوف داواه به، ولم يكن عليه شيء ولا على عاقلته، إن مات منه، وإن رأوا ألا يجبر عليه بذلك الدواء المخوف نهاه عن سقيه إياه، فإن تعدى ضمن في
(1) هو الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن عمرو الأصبحي إمام دار الهجرة، ولد رحمه الله بالمدينة سنة 93 من الهجرة على الأشهر، وهو إمام المذهب المالكي، وفضله ومكانته في العلم والورع والزهد مشهورة، توفي رحمه الله بالمدينة سنة 179 من الهجرة. من تآليفه: الموطأ، رسالة في الرد على القدرية، رسالة في الأقضية. الديباج المذهب لابن فرحون 17، 18، 27، 28.
(2)
البيان والتحصيل لابن رشد 9/ 348.
ماله، وقيل على العاقلة" (1) اهـ.
فاعتبر رحمه الله شهادة أهل الخبرة، وعلق حكم السلطان بالإذن للطبيب وعدمه على حكمهم، فإن أجازوا أذن، وإن لم يجيزوا لم يأذن.
ثم نص على اعتبار نهي السلطان للطبيب عن أن يداوي بما فيه خطر وغرر حيث ألزمه بالضمان.
ونظرًا لما تيسر في العصر الحاضر من تنظيم الطب وفروعه، فإنه ينبغي اعتبار إذن ولي الأمر بالجراحة الطبية الخطيرة، وتعتبر إدارات الشئون الصحية مخولة في النظر في ذلك نظرًا لكونها الجهة المسئولة عن الشئون الصحية، ومن ثم كان لها الحق في منع الأطباء من فعل هذا النوع من الجراحة الخطيرة والإذن لهم بذلك حسب ما يظهر الأطباء المختصين والله تعالى أعلم.
(1) المصدر السابق 9/ 349.