الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول في (القطع)
والمراد به: إبانة العضو، أو جزئه عن الجسم، سواء كان موضع الإبانة من المفصل، وتسمى عمليته بالفصل، كما في إبانة الأصابع والسلاميات بالحز من مفاصلها أو كان موضعها في غير المفاصل كما في بتر الساعد والساق من منتصفهما بالنشر (1)، والشيء المقطوع قد يكون عضوًا من أعضاء الجسم الموجودة فيه من أصل خلقته كاليد، والرجل.
وقد يكون جزءًا غريبًا ناشئًا بسبب علة، أو آفة أصابت الموضع الذي فيه ذلك الجزء كما في الخراج ونحوه.
والقطع في الحقيقة إتلاف وهو مفسدة (2)، ولذلك فإن الأصل فيه أنه محرم شرعًا، لكن أجيز في الجراحة الطبية لمكان الضرورة والحاجة الداعية إلى فعله، وقد أشار إلى ذلك الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله وحكى إجماع أهل العلم رحمهم الله عليه بقوله:"واتفقوا أنه لا يحل لأحد أن يقتل نفسه ولا يقطع عضوًا من أعضائه، ولا أن يؤلم نفسه في غير التداوي بقطع العضو الألم خاصةً"(3) اهـ.
(1) المصباح الوضاح في صناعة الجراح. د. جورج بوست 660.
(2)
الفوائد في اختصار المقاصد للعز بن عبد السلام 50.
(3)
مراتب الإجماع لابن حزم 657.
وقد شهدت السنة النبوية الثاتبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواز فعل القطع عند الحاجة إليه في العلاج.
ففي الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه"(1).
فقد أقر عليه الصلاة والسلام الطبيب على فعله القطع، ولم ينكره عليه فدل ذلك على جواز فعله للعلاج والمداواة (2).
وإقدام الأطباء على قطع الأعضاء وإبانتها إتلاف أجازته الشريعة الإسلامية لمكان المصلحة المرجوة من ذلك الفعل، ومفسدته أخف من مفسدة بقاء تلك الأعضاء التي أصيبت بالآفات الموجبة لقطعها، كما أشار إلى ذلك الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله عند بيانه لمراتب الإتلاف بقوله: "أحدهما: إتلاف لإصلاح الأجساد، وحفظ الأرواح، كإتلاف الأطعمة
…
ويلحق به قطع الأعضاء المتآكلة حفظًا للأرواح، فإن إفساد هذه الأشياء جائز للإصلاح" (3) اهـ.
فلما كان المقصود من هذا الإتلاف الإصلاح المشتمل على حفظ الروح من الهلاك المتوقع من بقاء الأعضاء التي يراد قطعها جاز فعله، لأنه من باب دفع المفسدة العليا بارتكاب المفسدة الدنيا (4)، ومن قواعد الشريعة الإسلامية: "أنه إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا
(1) تقدم تخريجه انظر ص (88).
(2)
استشهد بهذا الحديث الإمام ابن القيم رحمه الله في الطب النبوي على جواز القطع ومشروعيته. الطب النبوي 49.
(3)
قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2/ 87.
(4)
تهذيب الفروق محمد علي حسين 1/ 210.
بارتكاب أخفهما" (1).
فبقاء هذه الأعضاء مشتمل على مفسدة فوات النفس، وقطعها مشتمل على مفسدة الإتلاف للجزء، فوجب تقديم مفسدة فوات النفس لتعلقها بالكل على مفسدة الإتلاف المتعلقة بالجزء ارتكابًا لأخف الضررين، وأهون الشرين (2).
والقطع في الجراحة الطبية يصل في بعض الأحوال إلى مرتبة الضروريات، وفي بعضها إلى مرتبة الحاجيات.
فيصل إلى مرتبة الضروريات في الأحوال التي يخشى فيها من فوات النفس، فيلجأ الأطباء إلى فعله إنقاذًا للمريض من الموت.
ومن أمثلة ذلك ما يجري في جراحة القلب لعلاج الناسور الشرياني بين الأبهر، والرئوي، حيث يقوم الطبيب الجراح بقطع القناة الشريانية، وخياطة النهاية الأبهرية، والنهاية الرئوية (3)، وهذه المرتبة هي أعلى المرتبتين، وهي أعلى المراتب الموجبة للترخيص في الشريعة (4).
وأما مرتبة الحاجيات فهي التي لا تصل إلى درجة الخوف على النفس من الهلاك، ولكن يلجأ الأطباء فيها إلى القطع دفعًا لضرر الآلام ومشقتها.
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم 89، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء 147.
(2)
قواعد الفقه للمجددي 140، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 145، 149.
(3)
الأمراض الجراحية لمجموعة من الأطباء 282 - 284، وجراحة القلب. د. القباني 93 - 95.
(4)
الأشباه والنظائر للسيوطي 80، 81، والأشباه والنظائر لابن نجيم 82، والأقمار المضيئة للأهدل 113.