الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني فضل علماء الطب المسلمين في تطوير الجراحة ونماذج من إسهاماتهم
عاشت أوربا في العصور الوسطى سنوات طويلة في ظلام دامس من الجهل وتعتبر هذه الفترة فترة ركود حضاري بالنسبة لها.
وفي الوقت نفسه كانت البلاد الإسلامية تعيش حياة علمية مزدهرة، حتى أصبحت في ذلك الحين محط الرحل لطلاب العلم والمعرفة الذين يقصدونها، خاصة من البلاد الأوربية طمعًا في الحصول على المعارف والفنون التي نبغ المسلمون فيها نبوغًا عظيمًا.
وتفجرت ينابيع المعرفة على أيدي جهابذة العلماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف، حتى شمل ذلك علوم الطب، والحساب، والفلك، وغيرها من العلوم الأخرى.
وأمسكت تلك الأيدي الأمينة بزمام الحضارة العلمية، وقادتها بعقولها الفذة التي صقلتها روحانية الكتاب، والسنة، فسمت بها إلى ذروة المجد والعلياء.
وكان من ضمن ما نبغ فيه علماء المسلمين في تلك العصور المزدهرة علم الطب على اختلاف تخصصاته، والتي من ضمنها
الجراحة الطبية.
فقد كانت الجراحة الطبية في العصور الإسلامية الأولى تعتبر صنعة ممتهنة، وكان علماء الطب المسلمين من الأوائل يترفعون عن القيام بها وأدائها، وكانوا يسمونها "عمل اليد"، وكانت آنذاك من مهمة الحجامين الذين يقومون بالكي، والفصد والحجامة، وبتر الأعضاء تحت إشراف الأطباء وإرشاداتهم (1).
ثم لم تمضِ مدة حتى نبغ علماء الطب المسلمون في تطوير الجراحة الطبية والإسهام في تقدمها حتى وصلت إلى درجة عالية من الدقة والمهارة، وذلك بفضل الله تعالى، ثم بفضل جهودهم المخلصة التي تمثلت في جوانب عديدة ساعدت على الوصول إلى هذه الغاية.
فقد كانوا أول من أفرد علم الجراحة الطبية بالكتابة عنه في مواضع مخصوصة من كتبهم الطبية، ثم بالتأليف المستقل الذي يجمع شتاته، ويعتني بصياغته في أسلوب علمي بديع، وقد اعتنوا في تلك المؤلفات ببيان عدد من أنواع الجراحة الطبية التي لم يسبقوا إلى معرفتها، وقاموا بوصف مراحلها في كتبهم لأول مرة في التاريخ، ومن تلك الأنواع التي بينوها ما يلي:
(1)
عملية تفتيت الحصى الموجود في المثانة.
(2)
عملية تجبير الكسور الموجودة في الأنف.
(1) أعلام العرب المسلمين في الطب، د. علي عبد الله الدفاع 51، 52، الطب الإسلامي، د. أحمد طه 63، ودراسات في تاريخ العلوم عند العرب حكمت نجيب عبد الرحمن 57.
(3)
عملية فتح القصبة الهوائية (1).
(4)
عملية استئصال اللوزتين (2).
(5)
عملية فتح الخراج الموجود في اللهاة (3)
(6)
عملية قطع اللحم النابت في الأذن.
(7)
عملية ثقب الأذن المسدود.
ومع اكتشافهم لهذه الأنواع ووصفهم لها لأول مرة في التاريخ نجدهم أيضًا قد تكلموا على بعض المعلومات المهمة جدًا في علم الجراحة، وكانوا أول من نبه عليها، ومن تلك المعلومات تفريقهم بين الأورام الخبيثة (السرطانية)(4) والزوائد اللحمية، حيث وضعوا بعض الأمارات والعلامات التي يمكن للطبيب أن يستهدي بها لمعرفة نوعية الورم هل هو خبيث فيتجنبه، أم هو من الزوائد اللحمية التي يمكن استئصالها ومداواتها بالجراحة.
(1) القصبة الهوائية: هي المسلك الهوائي الممتد من الحلق والحنجرة إلى الشعبتين الرئيسيتين، وطولها عشرة سنتيمترات، وعرضها سنتيمتر ونصف السنتيمتر تقريبًا.
الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 1061.
(2)
اللوزتين: مثنى لوزة، والمراد بها اللوزتان الحنكيتان، ومكانهما في جانبي الحلق، وشكلهما بيضي، وهما جزء من الجهاز اللمفاوي. المصدر السابق 7/ 1140.
(3)
اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم. المصباح المنير للفيومي2/ 559.
(4)
الورم السرطاني: ورم خبيث ناتج من تحول، أو تغير خبيث يصيب الخلايا البشرية، أو الأبنيليومية، ولا يعرف على وجه التحديد سبب هذا التغير في نمو الخلايا، وتكاثرها. الموسوعة الطبية العربية د. البيروم 176.
ويعتبر عبد الملك بن زهر رحمه الله (1) أول طبيب جراح قام بوصف جراحة الجهاز التنفسي، وذلك في كتابه الفريد في الطب "التيسير في المداواة والتدبير"(2).
كما كان الرازي رحمه الله (3) أول من تكلم على الفوارق التي يميز بها بين نوعي النزيف (النزيف الشرياني، والوريدي)، كما تكلم على جراحة الكسور والجبائر فجاء بآراء في غاية الصحة.
كما نبه على الطرق التي يمكن بواسطتها إيقاف النزيف الشرياني والسيطرة عليه.
وكان أيضًا أول من استعمل الفتائل في أثناء العمل الجراحي، وكذلك الأنابيب التي يمر فيها الصديد والقيح، والإفرازات السامة.
(1) هو أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر بن زهر الأيادي، ولد رحمه الله في أشبيلية ما بين عام 484 وعام 487 هـ، وهو من أسرة مشهورة بالنبوغ في الطب، لكنه يعتبر أعظم أطبائها بلا نزاع، توفي رحمه الله في عام 557 هـ وله مؤلفات منها: التيسير، الأغذية عيون الأنباء لابن أبي أصبعيه: 2/ 517، 519.
(2)
تأثير الحضارة الإسلامية الطبية والجراحية على الحضارة الغربية، د. محمد عبد الله سيد محمد خليفة، من بحوث المؤتمر الطبي العربي الرابع والعشرون بالقاهرة، ملخص الأبحاث 171، 172.
(3)
هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ولد رحمه الله بالري سنة 251 هـ، ونشأ بها،
ثم سافر إلى بغداد بعد الثلاثين من عمره، وعكف على تعلم الطب وغيره من العلوم، حتى نبغ واشتهر في علم الطب شهرة عظيمة، وتولى تدبير مارستان الري، ثم رئاسة المارستان العضدي في بغداد، توفي رحمه الله ببغداد سنة 311 هـ. وله مؤلفات كثيرة بلغت مائتين وثلاثين كتابًا ورسالة في العلوم الطبية، وغيرها، ومنها الحاوي، منافع الأغذية ودفع مضارها، الأطباء. عيون الأنباء لابن أبي أصبعيه: 414 - 427، ومعجم العلماء العرب للورد 1/ 144، 145.
ويعتبر الأطباء المسلمون أول من استعمل التخدير في الجراحة الطبية، حيث اخترعوا الأسفنجة المخدرة (1)، وكذلك كانوا أول من استعمل الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوان في تخييط الجروح (2).
وإضافة إلى ما سبق فإننا نجد الأطباء المسلمين قد اعتنوا بجانب آخر له أهمية كبيرة في علم الجراحة الطبية، ويعتبر مفتاحًا لفهمها، وإتقانها، وهو جانب التشريح الذي إذا تعلمه الطبيب، وأتقنه تمكن من أداء مهمة الجراحة بيسر وسهولة دون أن يعرض حياة المريض للخطر، ولذا قال الزهراوي (3) رحمه الله "من لا يبرع في التشريح لابد أن
(1) الأسفنجة المخدرة: هي قطعة من الأسفنج توضع في عصير الحشيش، والأفيون والزوان، وست الحسن، ثم تجفف في الشمس، وعند الحاجة إلى استعمالها ترطب بالماء، ثم توضع على أنف المريض فتمتص الأنسجة المخاطية الموجودة في أنفه تلك المواد المخدرة، فيتخدر بها. التخدير الموضعي د. شفيق الأيوني 12، أعلام العرب والمسلمين في الطب د. علي عبد الله الدفاع ص 58.
(2)
يقول الدكتور محمود الحاج قاسم: "يجمع المؤرخون على أن الرازي كان أول من أدخل استعمال الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوانات في خياطة الجروح والأنسجة تحت الجلد" اهـ. الطب عند العرب والمسلمين د. محمود الحاج قاسم ص 149، وانظر: الطب عند العرب حنيفة الخطيب ص 30.
وقد أشارت إلى هذه المعلومات الجراحية التي لم يسبق إليها أطباء المسلمين المصادر التالية: أعلام العرب والمسلمين في الطب، الدكتور علي عبد الله الدفاع 51 - 58 الطب عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات، الدكتور محمود الحاج قاسم محمد 105 - 153. الطب عند العرب حنيفة الخطيب 27 - 39.
نشأة الطب للدكتور عبد الله عبد الرزاق السعيد 74 - 83.
تاريخ الطب وآدابه وأعلامه أحمد شوكت الشطي 278 - 299.
شمس العرب تسطع على الغرب زيغريد هونكه 277 - 281.
(3)
هو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي قال عنه الحميدي في الجذوة: "من أهل الفضل والدين والعلم، وعلمه الذي بسق فيه علم الطب، وله فيه كتاب مشهور كثير الفائدة محذوف الفضول سماه كتاب التصريف
…
مات بالأندلس بعد =
يقع في خطأ قد يؤدي بحياة المريض" اهـ (1).
ويعتبر الزهراوي أحد أعلام الجراحة الطبية المبرزين، الذين كانت لهم الخبرة الواسعة في معلوماتها وتطبيقاتها وكان علم الجراحة قبل ظهوره من العلوم الممتهنة، حتى كان الأطباء يترفعون عن أداء بعض المهام ويكلونها إلى الحجامين، والحلاقين، ويقتصرون على الإشراف والتوجيه، وكانوا يسمون مهمته:(بعمل اليد)(2) وقد أشار الزهراوي رحمه الله إلى ذلك بقوله: "
…
رأيت أن أكمله لكم بهذه المقالة التي هي جزء من العمل باليد، لأن العمل باليد مخسة في بلادنا، وفي زماننا معدوم البتة حتى كاد أن يندرس عمله وينقطع أثره
…
" (3) اهـ.
ولكن ما إن ظهر كتابه "التصريف" حتى احتل علم الجراحة الصدارة بين الفروع والعلوم الطبية الأخرى، وكان لمؤلفه الزهراوي فضل السبق إلى إحيائه بعد أن كاد أن يدرس رسمه، وينقطع أثره (4).
= الأربعمائة"اهـ. جذوة المقتبس للحميدي ص 208، 209.
(1)
التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي 1/ 2، الإنجازات الجراحية لأبي القاسم الزهراوي د. أحمد عبد الحي من بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي، ثبت المؤتمر 4/ 554.
(2)
الطب عند العرب والمسلمين د. محمود الحاج قاسم ص 105، أعلام العرب والمسلمين في الطب د. الدفاع ص 52.
(3)
التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي 1/ 2. الطب عند العرب حنيفة الخطيب 31.
(4)
الطب عند العرب والمسلمين. د. محمود الحاج قاسم ص105، 106.