الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس هل يجوز للرجال أن يقوموا بمعالجة النساء بالجراحة والعكس
؟
دلت النصوص الشرعية على وجوب استتار النساء، وحفظهن لعوراتهن، وعدم إبدائها للرجال إلا لمن استثنى الله تعالى منهم (1).
والمداواة بالجراحة تستلزم النظر إلى المرأة الأجنبية، وعورتها، وعورة الرجل الأجنبي، واللمس، والكشف عن تلك المواضع، ومن ثم فإنه يرد السؤال:
هل يجوز قيام الرجال بمداواة النساء بالجراحة، والعكس؟ وإذا كان ذلك جائزًا فما هو دليل جوازه؟ ثم ما هي القيود والضوابط التي ينبغي مراعاتها في ذلك؟.
والجواب: أنه تجوز مداواة الرجال للنساء بالجراحة والعكس بشرط عدم وجود النظير، وأن توجد الحاجة الداعية للمداواة.
وأما دليل ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث الرُّبَيع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها أنها قالت: "كنا نغزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى"(2)، ولفظ الجرحى المراد به الرجال، وهم بلا شك أجانب
(1) مِن هذه النصوص قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ
…
} الآية. سورة النور (24) آية 31.
(2)
تقدم تخريجه.
عنها، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث:"فيه جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي للضرورة"(1) اهـ.
وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بأمِّ سُلَيْم ونسوة من الأنصار معه، إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى"(2).
فدل هذا على مشروعية معالجة المرأة للرجل عند وجود الحاجة، وأما الكشف عن العورة فهو مستثنى لمكان السبب الموجب للترخيص به، وهو وجود الحاجة الداعية إليه، وقد عهدنا من الشريعة أنها رخصت فيه عند وجودها، ويشهد لذلك حديث عطية القرظي في قصة بني قريظة لما حكم سعد رضي الله عنه بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم كان الصحابة رضي الله عنهم ينظرون إلى العانة فمن وجدوه أنبت قتلوه، ومن لم يجدوه كذلك تركوه (3).
وهذا يدل دلالة واضحة على جواز الكشف عن العورة للحاجة.
وكما دلت السنة المطهرة على جواز مداواة النساء للرجال، كذلك دل دليل العقل على جوازها وهو الاستحسان الموجب لاستثنائها من الأصل المقتضي لحرمة اللمس، والنظر، والكشف للعورة والمرأة الأجنبية (4).
(1) فتح الباري لابن حجر 6/ 52.
(2)
رواه مسلم في صحيحه 3/ 185.
(3)
رواه أحمد في مسنده 5/ 312، وأبو داود في سننه 4/ 199، وابن ماجة 2/ 849، والترمذي وصححه 4/ 145، 146، وصححه الحافظ ابن حجر رحمه الله في تلخيص الحبير 3/ 42.
(4)
اعتبر بعض الأصوليين الكشف عن العورة للتداوي من باب الاستحسان. انظر نزهة المشتاق شرح اللمع لأبي إسحاق محمد يحيى أمان 760، 761.
ووجهه: أننا لو قلنا بعدم جواز ذلك لأدَّى إلى مفسدة الهلاك المترتبة على المرض، أو على الأقل يؤدي إلى حصول مشقة الآلام الموجودة في المرض، ودرء المفسدة معتبر شرعًا، فجاز قصده بالحكم بالرخصة واستثناء حالة التداوي من الأصل المقتضي للمنع.
ثم إن قواعد الشريعة الإسلامية نصت على أن المشقة تجلب التيسير (1)، وأن الضرر يزال (2) والمشقة مترتبة على الحكم بالمنع فجاز التيسير بالرخصة، والضرر موجود في المرض فجازت إزالته بالمداواة مع اشتمالها على محظور الكشف والنظر واللمس (3).
وشرط الحكم بجواز مداواة الرجال للنساء، والعكس أن لا يوجد الأطباء من الرجال في حال كون المريض رجلاً، ولا يوجد العكس في حال العكس، فإذا وجد النظير من الرجال والنساء امتنع الترخيص لعدم وجود الحاجة الموجبة له.
وقد نص الفقهاء المتقدمون رحمهم الله على جواز معالجة النساء للرجال، والعكس، وذلك عند وجود الحاجة.
قال الإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي رحمه الله: "ونص أحمد أن الطبيب يجوز أن ينظر إلى المرأة الأجنبية إلى ما تدعو إليه الحاجة، وإلى العورة، وكذلك للمرأة أن تنظر إلى عورة الرجل عند الحاجة نص عليه"(4).
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 76، الأشباه والنظائر لابن نجيم 65، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 105.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي 83، الأشباه والنظائر لابن نجيم 85.
(3)
المبسوط للسرخسي 10/ 152، 154، الدر المختار للحصكفي 2/ 385، 386، المجموع للنووي 1/ 299، الأشباه والنظائر للسيوطي 79، الأشباه والنظائر لابن نجيم 80، القواعد الصغرى لابن عبد السلام 61، 62.
(4)
الطب من الكتاب والسنة للبغدادي 193.
أما القيود والضوابط التي ينبغي على الرجال والنساء مراعاتها عند اختلاف الجنس فهي تتلخص في وجوب التقيد بالحاجة، ومن ثم لا يجوز للمرضى أن يكشفوا عن موضع زائد عن القدر المحتاج إليه للجراحة، ولا يجوز للطبيب أن يصرف بصره إلى أي موضع غير الموضع الذي يحتاج لمداواته، وكذلك ينبغي أن يتقيد بالزمان المحتاج إليه ولا يزيد على ذلك.
قال قاضي زاده الحنفي (1) رحمه الله: "ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها للضرورة، وينبغي أن يعلم امرأة مداواتها، لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل، فإن لم يقدروا يستر كل عضو منها سوى موضع المرض، ثم ينظر ويغض بصره ما استطاع، لأن ما ثبت بالضرورة يُقَّدر بقَدرهَا"(2) اهـ.
فبين رحمه الله أنه لا تجوز المداواة في حال اختلاف الجنس إلا بعد تعذر وجود الجنس المثيل، فإذا تعذر وجوده جازت المداواة، ووجب على المريض ستر المواضع الزائدة عن قدر الحاجة، ووجب على الطبيب أن يقتصر في نظره على ذلك الموضع المحتاج إلى مداواته.
ثم بين أن هذا الحكم يستند إلى القاعدة الشرعية: "ما أبيح للضرورة يُقدرُ بقدرها"(3).
(1) هو الشيخ أحمد بن محمود الأدرنوي الرومي المعروف بقاضي زاده فقيه، ممن شارك في علوم مختلفة، تولى منصب الإفتاء، وتوفي بالقسطنطينية سنة 988 من الهجرة، وله مؤلفات منها: نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار وهو تكملة لفتح القدير لابن الهمام، وحاشية على شرح تجريد الكلام، وشرح الشريفي.
معجم المؤلفين عمر كحالة 2/ 171.
(2)
نتائج الأفكار قاضي زاده 8/ 99.
(3)
الأشباه والنظائر للسيوطي 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 86، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 133.
وعلى هذا فإنه ينبغي ستر المرضى، ومواضع الجراحة إلى حين الجراحة ثم بعد انتهاء المهمة الجراحية يجب على الأطباء والممرضين ستر عورة المريض، وصرف أبصارهم عن النظر إليها وهكذا العكس
…
والله أعلم.
* * *