الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد الثالث في (التعزير)
يترتب هذا الأثر على موجب الجهل، وعدم اتباع الأصول العلمية المعتبرة عند المختصين.
فأما موجب الجهل فإنه لا إشكال في تعزير صاحبه، لما في التطبب من الكذب، والتدليس على الناس على وجه يتضمن الاستخفاف بحرمة أرواحهم وأجسادهم، الأمر الذي يوجب معاقبة صاحبه بما يردعه، ويزجر غيره عن فعله، فلو فتح هذا الباب للناس وترك المتطبِّبون على حالهم لأدى ذلك إلى مفسدة عظيمة فوجب قفل السبل المفضية إليها بتعزير كل من سولت له نفسه الإقدام على معالجة المرضى بدون علم ودراية.
ولذلك نجد من الفقهاء رحمهم الله من اعتبر هذا الأثر وحكم بعقوبة المتطبب الجاهل، قال الشيخ محمد بن يوسف العبدري المالكي رحمه الله:"فإن أخطأ كأن نزل يد الخاتن، أو يقلع غير الضرس التي أمر بها، فهى من جناية الخطأ إن كان من أهل المعرفة، وإن غَرَّ من نفسه عُوقِبَ"(1) اهـ.
فقوله- رحمه الله: "إن غَرَّ من نفسه عُوقبَ": المراد به أن يكون جاهلاً غرّ العليل فادعى علمه بالطب وأخطأ في مهمتة، وقوله:"عوقب" المراد به أنه يعزر، وقد ورد ذلك صريحاً في نقل الإمام
(1) التاج والإكليل للمواق 5/ 439.
إبراهيم بن فرحون المالكي رحمه الله عن بعض فقهاء المالكية رحمهم الله وذلك في قوله:
"قال ابن عبد السلام: وينفرد الجاهل بالأدب، ولا يؤدب المخطيء
…
" (1) اهـ.
فالمراد بالأدب تعزيره بما يردعه عن العود إلى غش الناس وتعريض أرواحهم وأجسادهم للتلف.
وكما يعزر المتطبب في جسده كذلك يعزر بمنعه عن مهنة الطب التي يجهلها، فلولي الأمر الحق في الحجر على هذا الصنف ومنعه من أذية الناس والإضرار بهم، لأن ذلك محقق للمصلحة المنصب من أجل تحصيلها، وموجب لدرء المفسدة المنصب من أجل دفعها ورفعها، ولهذا نجد بعض الفقهاء رحمهم الله ينصون على الحجر على المتطبب الجاهل إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول:
"يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام"(2).
قال الشيخ زين الدين بن نجيم رحمه الله عند بيانه لفروع هذه القاعدة: "ومنها جواز الحجر على البالغ العاقل الحر عند أبي حنيفة رحمه الله في ثلاث: المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس، دفعًا للضرر العام"(3) اهـ.
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 243.
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم 87، قواعد الفقه للمجددي 139. شرح القواعد الفقهية للزرقاء 143، 144.
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم 87، ونص على مثله الشيخ علاء الدين الحصكفي والشيخ أحمد الزرقاء. انظر المختار للحصكفي 323، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 144.
فقوله دفعاً للضرر العام فيه إشارة إلى أن منع هذا الصنف من الأطباء، وإن كان يتضمن الإضرار بهم من ناحية كسبهم المادي إلا أنه مبني على دفع ضرر أعظم من ذلك الضرر الذي لحق بهم، وهو الضرر العام الذي سيلحق المجتمع بسبب المتطبب الجاهل.
وأما تعزير الطبيب الذي خرج عن الأصول العلمية فذلك إنما يكون في حالة عدم وجود عذر مقبول عند الأطباء المختصين لخروجه، بأن خرج على وجه الإهمال والتقصير فحينئذ ينبغي تعزيره من جهة أنه أخل بالواجب الذي ينبغي عليه القيام به على وجهه خاصة وأنه ملتزم بذلك في عقده مع المريض أو مع المستشفى، فإذا قصر أو أهمل فإنه ينبغي تأديبه على ذلك التقصير والإهمال صيانة لأرواح الناس ودمائهم، إذ لو ترك من دون عقوبة فإنه سيعود إلى ذلك الإهمال والتقصير ويعتاده في الغالب، وبالتعزير ينكف، وينزجر غيره، وتعزير الطبيب على هذا الوجه ليس فيه ظلم له، بل هي عقوبة مبنية على وجود ما يبررها ويدعو إليها.
وينبغي على القاضي أن يرد ذلك التقصير والإهمال إلى أهل الخبرة، ويتعرف عن طريقهم على عظيم جرم الطبيب في إخلاله، ومن ثم يقرر ما يراه مناسبًا لعقوبته، وزجر غيره والله تعالى أعلم.