الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الأول "القياس":
أنه (1) استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت" (2).
الوجه الثاني: "النظر":
1 -
"أنه تعارض حقاهما (3)، فقدم حق الحي لكون حرمته أولى"(4).
2 -
أن إنقاذ النفس المحرمة واجب، والجنين نفس محرمة، وقد توقف أداء ذلك الواجب على الشق فوجب فعله (5).
ب- دليل القول الثاني:
استدل القائلون بعدم جواز شق بطن الحامل لإنقاذ جنينها بالنقل والعقل.
(1)
دليلهم من النقل:
حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله
(1) الضمير عائد إلى شق بطن الحامل.
(2)
ذكر هذا الدليل الإمام الشيرازي رحمه الله في المهذب 1/ 138.
(3)
المراد بقوله "حقاهما" حق المرأة الحامل وهو المحافظة عليها بدون شق لجلدها، وحق الجنين المتمثل في إنقاذه بالشق.
(4)
المبدع لابن مفلح 2/ 280، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام علاء الدين السمرقندي رحمه الله في تحفة الفقهاء 3/ 345.
(5)
أشار إلى ذلك الخطيب الشربيني رحمه الله بقوله بعد ذكره لوجوب إخراج المرأة الحامل بعد دفنها وفى بطنها الجنين الذي ترجى حياته فقال رحمه الله: "نبشت وشق جوفها تداركًا للواجب" اهـ. مغني المحتاج للشربيني 1/ 377، والمراد بالواجب إنقاذ الجنين من الموت.
- صلى الله عليه وسلم: "إن كسر عظم المؤمن ميتًا مثل كسر عظمه حيًا"(1).
وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها بزيادة: "في الإثم"(2).
وجه الدلالة:
أن الحديث دل على أن حرمة جثة الميت كحرمتها في حال الحياة، وكما لا يجوز شق بطن الحامل في الحياة كذلك لا يجوز بعد موتها (3).
(2)
دليلهم من العقل:
استدل أصحاب هذا القول بالعقل من وجهين:
الوجه الأول:
أن في شق بطن الحامل على هذا الوجه انتهاكًا لحرمة متيقنة (4) لإبقاء حياة موهومة (5).
الوجه الثاني:
أنه (6) لو خرج حيًا فالغالب المعتاد أنه لا يعيش (7).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن ماجة في سننه 1/ 516، وفي إسناده راو مجهول. انظر إرواء الغليل للألباني 3/ 215، 216.
(3)
هذا الحديث احتج به الإمام أحمد رحمه الله على حرمة شق بطن الحامل لإنقاذ جنينها. انظر المبدع لابن مفلح 2/ 279، كشاف القناع للبهوتي 2/ 169.
(4)
المراد بالحرمة المتيقنة حرمة جسد الحامل الميتة.
(5)
المراد بالحياة الموهومة حياة الجنين في بطن أمه.
(6)
الضمير عائد إلى الجنين.
(7)
ذكر هذين الوجهين العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح =
الترجيح:
الذي يترجح في نظري- والعلم عند الله- هو القول الأول وذلك لما يأتي:
أولاً: لصحة ما ذكروه في استدلالهم.
ثانيًا: وأما استدلال أصحاب القول الثاني بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول:
لا نسلم أن في شق بطن الحامل الميتة على هذا الوجه انتهاكًا لحرمتها، لأنه لا يقصد به إهانتها، وإنما المقصود منه إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك امتثالاً للشرع فهو قصد موافق لمقاصد الشريعة التي منها حفظ النفس (1)، وإذا كان القصد موافقًا للشرع فإن القاعدة تقول:"الأمور بمقاصدها"(2)، فيجوز فعل الشق لصحة مقصده شرعًا.
= رحمه الله في كتابه المبدع 2/ 279، وذكرهما الشيخ منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله، ولكنه جعل الوجه الثاني بمثابة التعليل للوجه الأول، خلافا لابن مفلح. كشاف القناع للبهوتي 2/ 169، وأشار إلى الوجه الأول بعض فقهاء المالكية رحمهم الله. حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 319.
(1)
المستصفى 1/ 271.
(2)
الموافقات للشاطبي 2/ 225، الأشباه والنظائر لابن نجيم 27،الأشباه والنظائر للسيوطي 8.
الوجه الثاني:
سلمنا فرضًا أن فيه انتهاكًا لحرمتها، لكن نقول تعارضت مفسدتان:
إحداهما: انتهاك حرمة الحامل الميتة بشق بطنها.
والثانية: انتهاك حرمة الجنين بتركه يموت داخل بطنها.
فوجب الترجيح بينهما، فوجدنا مفسدة الشق فيها ضرر بجزء من الجسد وهو البطن ووجدنا مفسدة ترك الجنين فيها ضرر بتلف النفس والروح، فعلمنا أن مفسدة شق بطن الحامل أخف إضافة إلى أنها تزول بالخياطة، بخلاف مفسدة موت الجنين فإنها أعظم ومما لا يمكن تداركه فوجب اعتبارها وتقديمها للقاعدة الشرعية التي تقول:"إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمها ضررًا بارتكاب أخفهما"(1).
ثالثًا: وأما استدلالهم بالعقل فيجاب عنه من وجهين:
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 89، الأشباه والنظائر للسيوطي 87، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 147. وقد أجاب الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله عن الاستدلال بهذا الحديث بأنه مقصور على الكسر أي أنه خارج عن موضع النزاع. المحلى 5/ 166. وبعد كتابة ما سبق من الترجيح وجدت كلامًا للشيخ عبد الرحمن ابن سعدي رحمه الله في هذه المسألة خلص فيه إلى القول بجواز الشق وأجاب بنحو ما تقدم فقال رحمه الله:"ومما يدل على جواز شق البطن وإخراج الجنين الحي أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم أعلى المصلحتين وارتكب أهون المفسدتين، وذلك أن سلامة البطن من الشق مصلحة وسلامة الولد ووجوده حيًا مصلحة أكبر، وأيضًا فشق البطن مفسدة وترك المولود الحي يختنق في بطنها حتى يموت مفسدة أكبر، فصار الشق أهون المفسدتين، ثم نعود فنقول الشق في هذه الأوقات صار لا يعتبره الناس مثلة ولا مفسدة، فلم يبق شيء يعارض إخراجه بالكلية" اهـ. المختارات الجلية لابن سعدي 320.
أحدهما: أن الوجه الأول مردود بأن الفقهاء رحمهم الله اشترطوا ما يوجب غلبة الظن بوجود الجنين وذلك ببلوغه لستة أشهر فأكثر وهي مدة يغلب على الظن فيها حياته (1)، فانتفى وصف الحياة بكونها موهومة، وأصبح الوهم فيما يقابل غلبة الظن وهو احتمال أن يكون الجنين ميتًا.
الثاني: أن الوجه الثاني مردود بأن عيش الجنين أو موته بعد خروجه أمر مرده إلى الله تعالى، والقطع بأحد الاحتمالين مستحيل، والحكم بغلبة الظن والعادة المذكورة لعله حدث فيما كان دون المدة السابقة التي اشترطها الفقهاء رحمهم الله القائلون بجواز الشق (2)، ولو حدث فيمن بلغ المدة المذكورة فإنه يحتمل أن يكون ذلك بسبب عدم توفر العناية اللازمة، والتي تيسرت بفضل الله تعالى في هذا العصر الحديث.
رابعًا: أن من فقهاء المالكية والحنابلة الذين حكموا بعدم جواز شق بطن الحامل من أجل إنقاذ الجنين الذي يتحرك في بطنها من يرى جواز الشق عن بطن الميت إذا بلع مال غيره بغير إذنه ولم يبذل ورثته
(1) حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 320، شرح الخرشي 2/ 49، المجموع للنووي 5/ 301، نهاية المحتاج للرملي 3/ 39، مغني المحتاج للشربيني 1/ 377، المحلى لابن حزم 5/ 166.
(2)
يشهد لذلك حياة الجنين الذي أمر الإمام أبو حنيفة رحمه الله بشق بطن أمه.
انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم 88، ونقل بعض المالكية رحمهم الله حادثة مثلها اختلف فيها أشهب بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن القاسم فأجاز الأول الشق ومنع الثاني، فأخذ بقول أشهب وعاش الجنين. انظر: الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لابن غنيم 1/ 351.
لصاحب المال حقه (1)، فإذا كان هذا في المال فلاشك أن إنقاذ حياة الجنين أولى، ولو قيل: إن الحصول على المال مقطوع بخلاف حياة الجنين فإنه متوهم (2).
قلنا: إن حياة الجنين محكوم بها على غلبة الظن كما تقدم وليست بمتوهمة والله أعلم.
وهذا النوع من مهمة الشق يعتبر فعله واجبًا على الطبيب الجراح ولا يجوز له الامتناع عن فعله إلا لعذر معتبر شرعًا.
وإنما وجب عليه فعله لكونه مأمورًا شرعًا بإنقاذ النفس المحرمة التي يستطيع فعل الأسباب الموجبة لإنقاذها ونجاتها -بإذن الله تعالى- وقد تقدم بيان وجه ذلك في الجراحة العلاجية الضرورية (3). وقد نص الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بمشروعية شق بطن الحامل الميتة لإنقاذ جنينها الحي- على وجوب فعل الشق، وإنقاذ الجنين، ولاشك في أن أحق من يتعلق به هذا الحكم هم الأطباء الجراحون الذين وهبهم الله أهلية القيام بمهمة الجراحة اللازمة لإنقاذ الجنين في مثل هذه الحالة.
ففي المذهب الحنفي حكى بعض فقهائه رحمهم الله عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: "أنه أمر بشق بطن الحامل"(4)، وظاهر الأمر الوجوب.
(1) شرح الخرشي 2/ 49، منح الجليل لعليش 1/ 319، الإنصاف للمرداوي 2/ 554 كشاف القناع للبهوتي 2/ 168، المبدع لابن مفلح 2/ 278.
(2)
الفواكه الدواني لابن غنيم 1/ 351.
(3)
تقدم الكلام عنه.
(4)
الأشباه والنظائر لابن نجيم 88.
ولما سئل صاحبه الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله عن المسألة نفسها قال: "يشق بطنها، ويخرج الولد لا يسع إلا ذلك"(1) اهـ.
فقوله رحمه الله: "لا يسع إلا ذلك" واضح في الدلالة على تعين الشق ولزوم فعله.
وفي المذهب الشافعي قال صاحب تحفة المحتاج رحمه الله ما نصه: "
…
ويجب شق جوفها لإخراجه قبل دفنها، وبعده
…
" (2) اهـ.
فقوله رحمه الله "ويجب" نص في الوجوب، ولزوم إنقاذ الجنين بشق بطن الحامل.
وقال العلامة شمس الدين محمد بن أحمد بن شهاب الدين الرملي الشافعي (3) رحمه الله: "
…
لو دفنت امرأة حامل بجنين ترجى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر فيشق جوفها، ويخرج، إذ شقه لازم قبل دفنها أيضًا
…
" (4) اهـ.
فقوله رحمه الله: "إذ شقه لازم" واضح في الدلالة على وجوب فعل الشق ولزومه.
(1) الفتاوى الهندية 157، 188.
(2)
حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج 3/ 205 شرح التحفة.
(3)
هو الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي ولد رحمه الله بالقاهرة سنة 919 هـ، ولي إفتاء الشافعية وهو من فقهائهم المبرزين، توفي رحمه الله في سنة 1004 هـ وله مصنفات منها: نهاية المحتاج، والفتاوى غاية البيان. معجم المؤلفين عمر كحالة 8/ 255، 256.
(4)
نهاية المحتاج للرملي 3/ 39.
ومن هذا كله نخلص إلى وجوب فعل هذا النوع من الجراحة الطبية، وأنه لا يجوز للطبيب الجراح أن يمتنع من فعلها بدون عذر شرعي، والنصوص السابقة من كلام أهل العلم رحمهم الله واضحة في الدلالة على ذلك، بل نص بعضهم على أنه إذا امتنع الإنسان من فعل الشق متعمدًا فإنه يعتبر قاتلاً.
قال الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله: "ولو ماتت امرأة حامل، والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولاً، ويخرج الولد، لقول الله تعالى:{وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (1)، ومن تركه عمدًا حتى يموت فهو قاتل نفس
…
" (2) اهـ.
وللحكم بوجوب الجراحة وشق بطن الحامل الميتة في هذه الحالة شرط نص عليه بعض الفقهاء القائلين بالوجوب وهو رجاء حياة الجنين، وفسر باكتمال الأشهر التي يغلب على الظن فيها الحكم بحياته، وهي عندهم سته أشهر، (3) ومنهم من قال ستة أشهر فأكثر دون حد (4)، ومنهم من قال سبعة أشهر، أو تسعة أشهر فأكثر (5).
وورد في الموسوعة الطبية الحديثة - التي أشرف على تأليفها عدد من الأطباء المختصين ما يشهد باعتبار ما بعد الستة الأشهر فرصة لبقاء
(1) سورة المائدة (5) آية 32.
(2)
المحلى لابن حزم 5/ 166.
(3)
المجموع للنووي 5/ 301، نهاية المحتاج للرملي 3/ 39، مغني المحتاج للشربيني 1/ 377، ترشيح المستفيدين للسقاف 138.
(4)
المحلى لابن حزم 5/ 166.
(5)
حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 320.
الجنين حيًا حيث ورد فيها ما نصه: "وتكون للجنين فرصة في البقاء حيًا إذا ولد بعد الشهر السادس من الحمل"(1) اهـ. فدل هذا على اعتبار الستة الأشهر فما فوق فرصة لحياة الجنين.
واختلف الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بجواز شق بطن الحامل في كيفية الشق، فمنهم من يراه طولاً (2)، ومنهم من يقول بالشق في خاصرتها اليسرى لأنها أقرب لجهة الجنين، ومنهم من يفصل فيقول يشق من خاصرتها اليسرى إذا كان الجنين أنثى، ومن خاصرتها اليمنى إذا كان ذكرًا (3).
والذي يظهر والعلم عند الله أنه يرجع في هذا الأمر إلى الأطباء المختصين وهم أهل لتقرير ما يرونه متفقًا مع أصول صنعتهم .. والله تعالى أعلم.
* * *
(1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 23.
(2)
هذا القول للإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله المحلى لابن حزم 5/ 166.
(3)
حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 320، شرح الخرشي 2/ 49، الدر المختار للحصكفي 1/ 116، فتح العلي المالك لعليش 1/ 158.