الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول في (موقف الشريعة الإسلامية من تعلم الطب والجراحة الطبية)
يعتبر علم الطب من العلوم المهمة في الحياة البشرية، وبتطبيقه تتحقق كثير من المصالح العظيمة والمنافع الجليلة، التي منها حفظ الصحة، ودفع ضرر الأسقام والأمراض عن بدن الإنسان، فيتقوى المسلم بذلك على طاعة ربه تعالى ومرضاته.
ولعظيم ما فيه من المصالح والمنافع أباحت الشريعة الإسلامية تعلمه وتعليمه، وتطبيقه.
قال الإمام محمد القرشي المعروف بابن الإخوة (1) رحمه الله: "الطب علم نظري عملي أباحت الشريعة تعلمه لما فيه من حفظ الصحة، ودفع العلل والأمراض عن هذه البنية الشريفة
…
" (2) اهـ.
والناس في مختلف العصور والأزمنة محتاجون إلى وجود الطبيب الذي يسعى في معالجة مرضاهم، فيقوم برعايتهم، ودفع ضرر الأسقام والأمراض والجراحات عن أبدانهم بإذن الله تعالى، ولا يمكن لمجتمع
(1) هو الإمام محمد بن محمد بن أحمد بن أبي يزيد بن الإخوة القرشي، ولد رحمه الله في عام 648 من الهجرة، وتوفي في عام 729 من الهجرة، وكان محدثاً، ومن آثاره: معالم القربة في أحكام الحسبة. الأعلام للزركلي 7/ 263، ومعجم المؤلفين لكحالة 11/ 181.
(2)
معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة ص 253.
أن يعيش سالمًا بدون وجود الطبيب خاصة في حال انتشار الأمراض الوبائية التي تفتك في الظرف اليسير بالأمم والجماعات الكثيرة.
فلابد للمجتمع من وجود الطبيب، وتختلف حاجته إليه بحسب اختلاف الظروف والأحوال وإذا لم تسد حاجة المجتمع إلى الأطباء فإن حياة الناس وأرواحهم ستكون مهددة بخطر الأمراض وجراحات الحروب والحوادث التي تفضي بهم إلى الموت والهلاك في الغالب.
ولما كانت شريعتنا الإسلامية مبنية على الرحمة بالخلق، ودفع المشقة والحرج عنهم في التكاليف والتشريعات التي جاءت بها (1)، فإنها راعت تلك الحاجة التي لابد من سدها في المجتمعات المسلمة، فأجازت تعلم الطب، وتعليمه.
قال الإمام النووي (2) رحمه الله "وأما العلوم العقلية فمنها ما هو فرض كفاية كالطب، والحساب المحتاج إليه.
قال الغزالي (3): ولا يستبعد عد الطب، والحساب من فروض
(1) قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} سورة الأنبياء (21) آية 107، وقال سبحانه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة الحج (22) آية 78، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
(2)
هو الإمام محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الحواربي الشافعي، ولد رحمه الله في سنة 631 هـ بنوى، عاش حياته مجدًا في طلب العلم وتعليمه، وتصنيف الكتب والمؤلفات الجليلة النافعة، وكان رحمه الله مثالاً في الصلاح والورع، وله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواقف محمودة، توفي رحمه الله بالقدس في رجب من سنة 676 من الهجرة، وله مؤلفات كثيرة منها: شرح صحيح مسلم، وروضة الطالبين، والمجموع شرح المهذب ولم يكمله. طبقات الشافعية لابن هداية الله 89.
(3)
هو الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ولد رحمه الله في عام 450 من الهجرة، وتفقه على إمام الحرمين، ويعتبر من كبار فقهاء الشافعية وأجلائهم، =
الكفاية، فإن الحرف، والصناعات التي لابد للناس منها في معايشهم كالفلاحة فرض كفاية، فالطب والحساب أولى" (1) اهـ.
فقوله رحمه الله: "المحتاج إليه": فيه دليل على أن الحكم بفرضية الطب على الكفاية إنما هو مبني على وجود الحاجة إليه.
ولاشك في أن هذه الحاجة موجودة في كل زمان ومكان، ولكنها تتفاوت في قدرها على حسب تفاوت الظروف والأحوال.
ولا يزال المسلمون الآن في مختلف الأمصار والأقطار الإسلامية بحاجة ماسة إلى الأطباء الذين يقومون بمعالجة مرضاهم، ومداواة جرحاهم، ونظرًا لذلك اضطروا لاستجلاب الأطباء من بلاد الكفر، وهذا يؤكد وجود الحاجة، الأمر الذي يجعل الحكم بفرضية تعلمه على الكفاية، والذي نص عليه الفقهاء المتقدمون رحمهم الله باق إلى يومنا هذا حتى تسد الحاجة الموجودة، ويصبح المسلمون في غنى تام عن استجلاب الأطباء الكفار.
وإذا كانت هذه الحاجة موجودة في البلدان الإسلامية فإنه يتعين على ولاة أمورها تجنيد الأكفاء الأخيار من المسلمين لتعلم الطب وتعليمه وتطبيقه، ولا ينبغي لهم البقاء على هذه الحالة التي اتكلوا فيها على أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم لما في ذلك من الأضرار الدينية والدنيوية الكثيرة التي لا تخفى (2)، وقد اتجهت كثير من
= وبرع في علوم كثيرة، وكان إمامًا مقدمًا فيها، توفي رحمه الله بطوس في عام 505 من الهجرة، وله مصنفات كثيرة منها: المستصفى، تهافت الفلاسفة، إحياء علوم الدين. البداية والنهاية لابن كثير 12/ 173، 174، وطبقات الشافعية لابن هداية ص 69 - 71.
(1)
روضة الطالبين للنووي 1/ 223.
(2)
تكلم ابن الحاج رحمه الله على ضرر الطبيب الكافر وخطره، انظر كتابه المدخل 4/ 114 - 120.
البلدان الإسلامية في هذا العصر إلى إنشاء الكليات الطبية في بعض جامعاتها، وفي ذلك تحقيق لمقصود الشرع المقتضي لسد الحاجة، وإن كان الأمر لا يزال بحاجة إلى مزيد من العناية.
فالحاصل أن الشريعة الإسلامية لا تنهى عن تعلم الطب، وتعليمه، وتطبيقه، متى ما كان على وجه الإصلاح، وتضمن نفع العباد وصلاح أبدانهم.
وهؤلاء فقهاء الإسلام، وأئمته الأعلام نجدهم ينصون في كتبهم على حكم فرضية تعلم الطب على الكفاية (1)، بل لم يقف الأمر عند ذلك وإنما تعدَّاه إلى شحذهم الهمم وحفزهم النفوس لتعلمه حتى قال الإمام الشافعي (2) رحمه الله:
"لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب"(3) اهـ.
ولعل أصدق شاهد على عناية فقهاء الإسلام وأئمته بهذا العلم أن نجد منهم من تعلمه وعلمه، بل واعتنى بالكتابة فيه، وخاصة في أشرفه وهو الطب النبوي (4).
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 415، وأسنى المطالب للأنصاري 4/ 181، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص 8، 9.
(2)
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ينتهي نسبه إلى عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم ولد رحمه الله بغزة سنة 150 من الهجرة وتلقى العلم بمكة والمدينة، وهو إمام المذهب الشافعي، وتتلمذ على يديه علماء أجلاء منهم الإمام أحمد بن حنبل، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وغيرهما، وكانت له مآثر جليلة ومناقب عظيمة، توفي رحمه الله بمصر في رجب من سنة 204 من الهجرة، من مؤلفاته: الأم، والرسالة.
البداية والنهاية لابن كثير 10/ 251، وطبقات الشافعية لابن هداية الله 11 - 14.
(3)
الطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص187.
(4)
ومن مؤلفاتهم في ذلك: كتاب الطب النبوي للإمام ابن القيم، ومثله للحافظ =
فنجد الإمام الشافعي رحمه الله له عناية وإلمام بالطب حتى روي عن بعض الأطباء في زمانه أنه قال: "ورد الشافعي مصر فذاكرني بالطب حتى ظننت أنه لا يحسن غيره
…
" (1) اهـ.
وقال عنه الإمام موفق الدين البغدادي (2) رحمه الله: "كان مع عظمته في علم الشريعة، وبراعته في العربية بصيراً بالطب"(3) اهـ.
وكذلك كان غيره من أعلام الإسلام وأئمته ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (4) ................
= السيوطي، وهناك عدد من الكتب المخطوطة والمطبوعة في نفس الموضوع. انظر دراسة الدكتور محمود ناظم الشيمي في كتابه:"الطب النبوي" والعلم الحديث ص 29 - 35.
(1)
المنهج السوي للسيوطي ص 90.
(2)
هو الإمام موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف بن محمد المعروف بابن اللباد، ولد رحمه الله ببغداد سنة 557 من الهجرة.
قال عنه ابن أبي أصبعيه: "كان مشهوراً بالعلوم متحليًا بالفضائل مليح العبارة كثير التصنيف، وكان متميزًا في النحو واللغة والعربية، عارفاً بعلم الكلام والطب، وكان قد أعتنى كثيراً بصناعة الطب لما كان بدمشق، واشتهر بعلمها وكان يتردد إليه جماعة من التلاميذ وغيرهم من الأطباء للقراءة عليه" اهـ. توفي رحمه الله سنة 629 هـ وله مصنفات بلغت مائة وسبعة وأربعين. صنفا منها: غريب الحديث، وقوانين البلاغة، والطب من الكتاب والسنة. عيون الأنباء لابن أبي أصبيعه ص 683 - 696.
(3)
الطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص 187.
(4)
هو شيخ الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي ولد رحمه الله بحران في سنة 661 هـ ونبغ في العلوم والفنون المختلفة، وكان رحمه الله آية في العلم والعمل والجهاد في الدعوة إلى الله تعالى بلسانه وسنانه، وأخباره وآثاره في ذلك مشهورة، وقد جمع بين العلوم النقلية والعقلية، ويعتبر من كبار المجتهدين وثناء العلماء عليه كثير، توفي رحمه الله بسجن القلعة بدمشق سنة 728 هـ، وله مؤلفات كثيرة منها: منهاج السنة النبوية، الجواب الصحيح، درء تعارض النقل والعاقل. البداية =
وتلميذه الإمام ابن القيم (1)، والحافظ الذهبي (2) وغيرهم رحمهم الله أجمعين.
وهذا الحكم الذي نص عليه فقهاء الإسلام رحمهم الله أي فرضية تعلم الطب وتعليمه على الكفاية- عام شامل للجراحة لاندراجها في الطب وهي فرع من فروعه (3)، والحاجة الموجودة إلى الطب التي بني عليها هذا الحكم موجودة في الجراحة أيضًا.
فقد كثرت في هذه الأزمنة الحروب، والحوادث -سواء في المصانع، أو وسائل النقل المختلفة، أو في غير ذلك- فخلفت وراءها الجراحات المفزعة المروعة في صورها وكثرتها ولا تزال المستشفيات في البلاد الإسلامية سواء كانت حكومية، أو أهلية بحاجة إلى الأطباء
= والنهاية لابن كثير 14/ 132، 135 - 140.
(1)
هو الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية، ولد رحمه الله بدمشق سنة 691 من الهجرة، وتوفي في رجب سنة 751 هـ تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولازمه، ويعتبر من المجتهدين، وله مصنفات كثيرة جداً في مختلف العلوم والفنون منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد في هدي خير العباد، الطرق الحكمية، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 447، وابن القيم حياته وآثاره.
د. بكر بن عبد الله أبو زيد ص7.
(2)
هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي ولد رحمه الله في سنة 673 هـ. قال عنه الكتبي رحمه الله: "حافظ لا يجارى، ولاحظٌ لا يبارى أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس وأبان الإبهام في تواريخهم والإلباس، جمع الكثير، ونفع الجمَّ الغفير .. " توفي رحمه الله في سنة 748 هـ ومن مؤلفاته: ميزان الاعتدال، وتاريخ الإسلام، وتاريخ النبلاء "سير أعلام النبلاء".
فوات الوفيات للكتبي 2/ 370 - 372.
(3)
يقول الدكتور جورج بوست: "الجراحة وهي صناعة الجراح والجراحي فرع من الطب
…
" المصباح الوضاح في صناعة الجراح.
الجراحين من المسلمين في مختلف تخصصات الجراحة الطبية وفروعها.
لذلك فإنه يجب على المسلمين أن ينتدبوا الأكفاء الأخيار الذين هم أهل لحمل هذه المسئولية، والأمانة إلى أن تسد حاجتهم، ولا يجوز لهم البقاء على هذه الحالة التي اتكلوا فيها على الأطباء الكفار.
فتبين من هذا كله فرضية تعلم الطب والجراحة على وجه الكفاية، وأن الشريعة الإسلامية لا تمنع من ذلك. ولا عجب في هذا الحكم من الشريعة، وهذه العناية من فقهائها المتمثلة في ندبهم المسلمين إلى تعلم الطب، وتعليمه، وتطبيقه، فهو العلم الذي جعل الله فيه وفي تطبيقه المصالح والمنافع الجليلة، فمع ما فيه من تفريج لكربات المرضى، وتخفيف لآلامهم فيه المصالح الدينية الأخروية التي تعود بالنفع أول ما تعود على الطبيب نفسه، ومن ذلك أن الإنسان أثناء تعلمه للطب وتطبيقه يرى تلك الدلائل العظيمة من بديع خلق الله في الإنسان، وبديع صنعه في تراكيب تلك الأعضاء الموجودة في داخل جسده، حيث جعل الله جل وعلا كل عضو في مكانه الذي لا يصلح فيه غيره، ويشاهد بأم عينيه تراكيب الأشياء، الدقيقة في صنعها، وحركتها، وسكونها، وما تحاط به من رحمة ولطف إلهي تحار فيه العقول، ولولاه لعاش الإنسان في عناء وشقاء لا يعلمه إلا الله وحده.
فهذه الدلائل الشاهدة بوحدانية الله، الناطقة بعظمته، وقدرته
تزيد المؤمن إيمانًا بربه، ومعرفة بأسمائه وصفاته، وإيقانًا بعظمته
وقدرته وحكمته، وفي ذلك استجابة لدعوة الله في كتابه العزيز حيث
يقول جل ذكره: {وَفِي الأرْضِ ءايَاتٌ لِّلمُوقنينَ * وَفِي أنفُسِكُمْ أفَلا
تُبْصِرُونَ} (1).
(1) سورة الذاريات (51) آية 20، 21.