الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني أن يكون المريض محتاجًا إلى الجراحة
مما يشترط لجواز الجراحة الطبية أن يكون المريض محتاجاً إليها، سواء كانت حاجته إليها ضرورية بأن خاف على نفسه الهلاك، أو تلف عضو أو أعضاء من جسده، أو كانت حاجته دون ذلك بأن بلغت مقام الحاجيات التي يلحقه فيها الضرر بسبب آلام الأمراض الجراحية ومتاعبها.
وهذا الشرط مبني على أن الأصل حرمة فعل الجرح بدون موجب شرعي، فإذا بلغ الإنسان بسبب الأمراض الجراحية مقام الاضطرار، والحاجة فإن الشرع يأذن له حينئذ بفعلها دفعًا لذلك الضرر، وتلك المشقة التي يعانيها.
وقد أشار بعض الفقهاء المتقدمين رحمهم الله إلى اعتبار هذا الشرط، وأن وجوده يعتبر بمثابة الإذن الشرعي بفعل الجراحة الطبية، يقول الشيخ موسى الحجاوي (1) رحمه الله:"ويصح استئجاره لحلق شعر، وتقصيره ولختان، وقطع شيء من جسده للحاجة إليه، ومع عدمها يحرم، ولا يصح"(2) اهـ.
(1) هو: الإمام موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي المقدسي الحنبلي، فقيه، أصولي، محدث، أفتى بدمشق وتوفي بها عام 968 هجرية، وله مصنفات منها: الإقناع لطالب الانتفاع، وشرح المفردات، وشرح منظومة الآداب لابن مفلح. معجم المؤلفين عمر رضا كحالة 3/ 34، 35.
(2)
الإقناع للحجاوي 2/ 302.
فقد نص رحمه الله على صحة عقد الإجارة على فعل الجراحة إذا توفر شرط جوازها وهو "وجود الحاجة إليها"، كما نص على حرمة فعلها في حال عدم توفر ذلك الشرط وذلك بقوله:"ومع عدمها يحرم" أي يحرم القطع عند عدم وجود الحاجة (1).
وفي هذا دليل على اعتبار شرط "وجود الحاجة" ولزومه للحكم بجواز فعل الجراحة، بل نجد الفقهاء رحمهم الله يؤكدون هذا المعنى حينما يقولون بفسخ عقد الإجارة على فعل الجراحة إذا زالت الحاجة الداعية إليها ببرء المريض وشفائه من علته.
ففي الفتاوى الهندية ما نصه: "لو استأجر إنسانًا لقطع يده عند وقوع الآكلة، أو لقلع السن عند الوجع، فبرأت الآكلة وزال الوجع تنتقض الإجارة، لأنه لا يمكن الجري على موجب العقد شرعًا"(2) اهـ.
فقد نص رحمه الله على انتقاض عقد الإجارة وانفساخه بسبب زوال الحاجة وقوله: "لأنه لا يمكن الجري على موجب العقد شرعًا" فيه تصريح بعلة الحكم وهي أنه امتنع إمضاء العقد على وجه معتبر شرعًا، وذلك لأن فعل الجراحة بعد زوال العلة الموجبة لها يعتبر ضررًا محضًا، وعند وجود العلة الموجبة لها، يعتبر مصلحة، والشرع إنما يجيز ما كان متضمنًا للمصلحة والنفع، لا ما كان متضمنًا للمفسدة والضرر المحض (3).
(1) كشاف القناع للبهوتي 4/ 9، وأشار إلى اعتبار شرط الحاجة غيره.
انظر: روضة الطالبين للنووي 5/ 185، والمغني والشرح الكبير 6/ 123، وبدائع الصنائع للكاساني 4/ 198، ومغني المحتاج للشربيني 2/ 324، ومنح الجليل لعليش 3/ 776، 777.
(2)
الفتاوى الهندية 4/ 458.
(3)
يقول الإمام الكاساني رحمه الله في معرض بيانه لعلة فسخ الإجار في حال زوال الحاجة: " .. وقلع الأضراس، والحجامة، والفصد، إتلاف جزء من =
وهذا الحكم (1) متفق عليه عند جماهير الفقهاء من الحنفية (2)، والمالكية (3) والشافعية (4)، والحنابلة (5) رحمهم الله.
وهو كما يدلنا على اعتبارهم لشرط الحاجة، فإنه يدلنا على أمر آخر يتعلق بهذا الشرط وهو أن اعتباره ليس موقوفًا على حال العقد فحسب، بل إنه يسري إلى وقت مباشرة فعل الجراحة، فإذا شخَّص الطبيب المرض وخلص إلى لزوم الجراحة، وحكمنا له وللمريض بجواز فعلها، والإذن بها، ثم زال ذلك المرض قبل مباشرة الطبيب لفعل الجراحة، فإنه حينئذ لا نقول ببقاء الحكم بجوازها بناء على تحقق الشرط المعتبر في الحالة الأولى، بل نحكم بالرجوع إلى الأصل الموجب لحرمة فعل الجراحة نظرًا لتخلف الشرط عند حال المباشرة للفعل.
ومن أمثلة ذلك ما يجري في الجراحة العصبية حيث يشتكي المريض من ألم شديد في موضع معين من جسده، وبعد الفحوصات اللازمة يقرر الأطباء المختصون بأنه لا سبيل لزوال ذلك الألم الشديد إلا بقطع العصب الموصل للإشارات الحسية من المنطقة التي يشتكي منها
= البدن، وفيه ضرر به، إلا أنه استأجره لمصلحة تربو على المضرة، فإذا بدا له علم أنه لا مصلحة فيه بقي الفعل ضررًا في نفسه فكان له الامتناع من الضرر .. " اهـ. بدائع الصنائع 4/ 198.
(1)
أي فسخ الإجارة على فعل الجراحة إذا زالت الحاجة قبل المباشرة.
(2)
المبسوط للسرخسي 16/ 2، وبدائع الصنائع للكاساني 4/ 197، 198، والهداية للميرغيناني 3/ 205.
(3)
حاشية الدسوقي 4/ 36، ومنح الجليل لعليش 3/ 793، وجواهر الإكليل للأبي 2/ 192.
(4)
المهذب للشيرازي 2/ 406، وروضة الطالبين للنووي 5/ 185.
(5)
المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 126.
إلى الدماغ حتى يزول الإحساس بذلك الألم (1)، وقبل مباشرة الطبيب للجراحة يزول ذلك الألم ويرتاح المريض، ففي هذه الحالة وأمثالها لا يعتبر تحقق الشرط في حال الألم موجبًا لسريان الحكم المترتب عليه إلى حالة أخرى تخلف فيها ذلك الشرط، وانتفى وجوده.
فالجراحة في الأصل إنما شرعت بسبب وجود الحاجة فإذا انتفت قبل المباشرة رجعت الجراحة إلى حكم الأصل الموجب لعدم جوازها للقاعدة الشرعية التي تقول: "ما جاز لعذر بطل بزواله"(2).
* * *
(1) الجراحة العصبية د. هشام بكداش 238، الجراحة العصبية د. النحاس ص 339.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي ص 85، والأشباه والنظائر لابن نجيم 86، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 135.