الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث (أدلة مشروعية المسئولية الطبية)
دلت أدلة الشريعة الإسلامية عن النقل، والعقل على اعتبار المسئولية الطبية، ففي حديث عمرو بن شعيب (1) عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من تَطبَّبَ ولَمْ يُعْلم مِنْهُ طِب قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ"(2).
فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً عند أهل العلم رحمهم الله في تضمين المتطبب الجاهل إذا عالج غيره واستضر بعلاجه (3).
وقد دل الحديث على اعتبار المسئولية الطبية التي عبر عنها بأثرها وهو وجوب الضمان على هذا النوع ممن يدعي الطب وهو جاهل به، وهو عام شامل لمن تطبب بجراحة أو غيرها من فروع الطب، ويدخل فيه من كان في حكم الأطباء كالمحللين، والممرضين، والمخدرين، والمصورين بالأشعة والمناظير الطبية.
وإذا كان الجهل هو الموجب للمسئولية كما يدل عليه ظاهر
(1) هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص المتوفى سنة 118 من الهجرة، وقوله عن أبيه أي شعيب، وقوله عن جده أي جد شعيب، وهو عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل. قال الحافظ النسائي رحمه الله:"صح سماع عمرو من أبيه، وصح سماع شعيب من جده" اهـ. تهذيب التهذيب لابن حجر 8/ 50.
(2)
رواه ابن ماجة 2/ 248، والحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الحافظ الذهبي على تصحيحه. المستدرك 4/ 212 مع التلخيص.
(3)
الطب النبوي لابن القيم ص 107، والطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص 189.
الحديث (1)، فإنه يستوي فيه الجاهل بالكلية وهو الشخص الذي لم يتعلم الطب، والجاهل بالجزئية وهو الشخص الذي علم الطب، وبرع في فرع من فروعه، ولكنه يجهل الفرع الذي عالج فيه، مثل الطبيب الجراح المختص بجراحة العيون، إذا قام بجراحة خارجة عن اختصاصه ويجهلها، أو قام بفعل جراجة داخلة في اختصاصه لا علم له بمراحلها أو لا قدرة عنده على تطبيقها على الوجه المطلوب، وهكذا الحكم بالنسبة لمساعدي الأطباء، كل هؤلاء يتحملون المسئولية عن الأضرار الناتجة عن أعمالهم التي أقدموا على فعلها مع جهلهم بأصولها المعتبرة عند أهل الاختصاص والمعرفة.
والمقصود أن هذا الحديث الشريف دل على اعتبار المسئولية الطبية التي عبر عنها بأثرها وهو الضمان وأن دلالته شاملة لمن تطبب وكان جاهلاً بالطب كلية أو كان جاهلاً بالجزئية التي تطبب فيها وأنه يدخل في حكم التطبب التمريض، والتحليل، ونقل الدم، والتخدير، والتصوير بالأشعة والمناظير الطبية.
وكما دلت السنة النبوية على مشروعية تحميل الطبيب عبء المسئولية عن الأضرار الناتجة عن خطئه، كذلك دل الإجماع على مشروعية ذلك واعتباره.
فقد أجمع أهل العلم رحمهم الله على تضمين الطبيب الجاهل، وكذلك تضمين الطبيب المتعدي الذي يجاوز الحدود والضوابط المعتبرة عند أهل المعرفة والاختصاص.
(1) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "من تطبب" ولم يقل: "من طب"، لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر، وكلفة، وأنه ليس من أهله، كتحلم وتشجّع، وتصبّر، ونظائرها" اهـ. الطب النبوي لابن القيم ص 109.
فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى علم الطب، وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هجم بجهله على إتلاف النفوس، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه، فيكون قد غرر (1) بالعليل، فيلزمه الضمان لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم" (2) اهـ.
فقد بين رحمه الله إجماع أهل العلم رحمهم الله على تضمين الطبيب الجاهل وهذا يتعلق بالنوع الأول الذي سبقت الإشارة إليه.
أما النوع الثاني وهو الطبيب المتعدي فقد أشار إلى اعتبار مسئوليته وتضمينه بما نقله عن الإمام الخطابي (3) رحمه الله بقوله: "قال الخطابى: لا أعلم خلافًا في أن المعالج إذا تعدى، فتلف المريض كان ضامنًا"(4) اهـ.
وكما دل دليل النقل على اعتبار المسئولية الطبية وثبوتها شرعًا في حال الجهل، والتعدي، كذلك دل دليل العقل على مشروعيتها وذلك من الوجوه التالية:
الوجه الأول القياس:
أ- يضمن الطبيب الجاهل ما أتلفته يداه، كما يضمن الجاني
(1) غرر: أي خاطر، والغرر الخطر. المصباح المنير للفيومي 2/ 445.
(2)
الطب النبوي لابن القيم ص 109.
(3)
هو الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي ينتهي نسبه إلى زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولد رحمه الله ببُسْتَ سنة 319 من الهجرة نبغ رحمه الله في الحديث، والفقه، واللغة، والأدب، توفي رحمه الله ببُسْتَ سنة 388 من الهجرة، وله مصنفات منها: معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، أعلام الحديث. معجم المؤلفين عمر كحالة 2/ 61.
(4)
الطب النبوي لابن القيم ص 109، وممن حكى الإجماع عن تضمين الطبيب الجاهل، ابن رشد الحفيد رحمه الله في بداية المجتهد 2/ 418.
سراية جنايته، بجامع كون كل منهما سراية جرح لم يجز الإقدام عليه (1).
ب- يضمن الطبيب المتعدي ما أتلفت يداه، كما يضمن الجاني سراية جنايته، بجامع كون كل منهما فعلاً محرمًا (2).
الوجه الثاني النظر:
أن الشريعة الإسلامية راعت العدل بين العباد، ودفع الظلم عنهم والمسئولية الطبية عن الجراحة الطبية معينة على تحقيق ذلك، فوجب اعتبارها.
وبهذه الأدلة النقلية، والعقلية، يتبين لنا ثبوت المسئولية عن الجراحة الطبية واعتبار الشريعة الإسلامية لها.
وهذه الأدلة الشرعية صريحة في الأطباء الذين يتولون العلاج ويدخل في حكمهم الممرضون، والمحللون، والمخدرون، والمصورون بالأشعة والمناظير الطبية، وغيرهم ممن له علاقة بعلاج المريض سواء كان ذلك في المراحل الممهدة للجراحة أو في مراحل المهمة الجراحية، أو ما بعدها.
(1) أشار إلى أصل هذا القياس الإمام ابن القيم رحمه الله عند بيانه لتضمين الخاتن الجاهل بقوله: "فإن لم يكن من أهل العلم بصناعته، ولم يعرف بالحذق فيها، فإنه يضمنها، لأنها سراية جرح لم يجز الإقدام عليها، فهي كسراية الجناية، وقد اتفق الناس على أن سراية الجناية مضمونة". تحفة المودود لابن القيم ص 152، 153.
(2)
أشار إلى أصل هذا القياس ابن قدامة رحمه الله وذلك عند بيانه لسبب تضمين الطبيب الجاهل وغيره من أرباب الصنائع كالحجام الجاهل فقال رحمه الله: "
…
أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بصارة ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا كان فعلاً محرمًا فيضمن سرايته كالقطع ابتداء" اهـ. المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 120.