الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد الثانى في (القصاص)
يعتبر القصاص أثرًا من الآثار المترتبة على ثبوت موجب المسئولية، وذلك في حالة واحدة، وهي ثبوت موجب العدوان، فإذا ثبت أن الطبيب كان قاصدًا لقتل المريض، أو إتلاف شيء من جسده، وأنه اتخذ من مهمة الجراحة ستارًا على جريمته فإنه يقتص منه سواء كان الضرر موجبًا لإتلاف النفس أو الأطراف، وتحققت الشروط المعتبرة للقصاص (1).
قال الشيخ خليل بن إسحاق المالكي (2) رحمه الله في مختصره عند بيانه للصور الموجبة للقصاص: "كطبيب زاد عمدًا"(3) اهـ.
قال الشيخ أحمد الدردير (4) رحمه الله في شرحه: قوله
(1) الدر المختار للحصكفي 2/ 438، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 374، الإقناع للشربيني 2/ 155، العدة للبهاء المقدسي 492.
(2)
هو الشيخ خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب المعروف بالجندى فقيه، مشارك في علوم العربية، والحديث، والفرائض، والأصول، والجدل، توفي رحمه الله بمكة سنة 767 من الهجرة، وله مصنفات منها: المختصر في فروع الفقه المالكي، مناسك الحج، شرح ابن الحاجب. معجم المؤلفين عمر كحالة 4/ 113 ، 114.
(3)
المختصر لخليل 317.
(4)
هو الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد العدوي المالكي الشهير بالدردير، ولد بمصر سنة 1127 من الهجرة، وتولى الإفتاء فيها وتوفي فيها سنة 1201 هـ. ومن مؤلفاته: أقرب المسالك، فتح القدير في أحاديث البشير النذير، ورسالة في متشابهات القرآن. معجم المؤلفين عمر كحالة 2/ 67.
"كطبيب": المراد به من باشر القصاص من الجاني، "زاد" على المساحة المطلوبة، "عمدا" فيقتص منه بقدر ما زاد" (1) اهـ.
فلم يلتفت إلى وصف الطبيب، وإنما التفت إلى قصده، ولا يشكل على هذا ورود العبارة في حق الطبيب الذي يقوم على القصاص، لأنه في حكم الطبيب المداوي فكل منهما قائم بمهمة مأذون فيها شرعًا واختلاف الحالين لا تأثير له، ولذلك نص الشيخ محمد الدسوقي رحمه الله (2) على وجوب القصاص على الطبيب المداوي، إذا قصد الاعتداء وذلك بقوله:"إنما لم يقتص من الجاهل لأن الفرض أنه لم يقصد ضررًا، وإنما قصد نفع العليل، أو رجا ذلك، وأما لو قصد ضرره فإنه يُقْتَصُ منه"(3) اهـ.
فدل هذا على مشروعية القصاص من الطبيب القاصد للاعتداء بالجراحة عمومًا "في النفس والأطراف".
وهذا الحكم الذي نص عليه هؤلاء الفقهاء رحمهم الله يتفق مع الأصل الشرعي الذي دلت عليه نصوص الكتاب العزيز. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (4).
(1) شرح الدردير 4/ 295.
(2)
هو الشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي عالم مشارك في الفقه والكلام والنحو والبلاغة والمنطق وغيرها، ولد رحمه الله بدسوق من قرى مصر، وتوفي بالقاهرة سنة 1230 من الهجرة، وله مصنفات منها: حاشية على شرح الدردير لمختصر خليل، حاشية على شرح سعد الدين التفتازاني على التلخيص في البلاغة، حاشية على مغني اللبيب في النحو. معجم المؤلفين، عمر كحالة 8/ 292.
(3)
حاشية الدسوقي 4/ 295.
(4)
سورة البقرة (2) آية 178.
وقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (1).
فدلت هذه الآيات الكريمة على وجوب القصاص في النفس والأطراف، وشملت بعمومها الأطباء وغيرهم، وقد أكدت السنة المطهرة ذلك، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس
…
" (3).
وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه: "أن ابنة النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص"(4).
فدل هذان الحديثان على وجوب القصاص في النفس والأطراف، والطبيب داخل في عموم دلالتها وبتعمد الطبيب للقتل والقطع للعضو بقصد الضرر خرج عن كونه طبيبًا إلى كونه ظالمًا معتديًا وأصبح وصفه بكونه طبيبًا لا تأثير له لخروجه بتلك الجناية عن حدود الطب مع قصدها.
وهذا الأثر قل أن يوجد عند الأطباء لما عرف عنهم من الحرص
(1) سورة البقرة (2) آية 179.
(2)
سورة المائدة (5) آية 45.
(3)
رواه البخاري في صحيحه 4/ 188.
(4)
المصدر السابق 4/ 190.
على نفع مرضاهم وهم محل حسن الظن، ولذلك نجد الفقهاء رحمهم الله يعتبرون هذا الأصل فيهم، ومن ثم قال بعضهم عند بيانه لعلة إسقاط القصاص عن الطبيب إذا قصر:
"والأصل عدم العداء إن ادعي علية بذلك"(1) اهـ.
فالأصل في الأطباء أنهم إنما يقصدون شفاء مرضاهم والإحسان إليهم، وإنما المقصود من إيراد هذا الأثر هنا بيان حكمه شرعًا على فرض وجوده
…
والله أعلم.
* * *
(1) حاشية الدسوقي 4/ 295.